الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا
سورة الكهف الاية رقم 1
ختم الحق سبحانه سورة الإسراء بالحمد
وبدأ سورة الكهف بالحمد
والحمد لله دائماً هو الشعار الذي أطلقه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في خير الكلمات: «سبحان الله والحمد لله» سبحان الله بُدئتْ بها سورة الإسراء
والحمد لله بُدئت بها سورة الكهف.
سبحان الله تنزيه لذاته سبحانه أن يكون له شريك، لا في الذات، ولا في الأفعال، ولا في الصفات
والحمد لله كذلك تكبرة للذات
وبعد ذلك جاء العطاء من الذات
فقُلْنا: الحمد لله، فسبحان الله تنزيه،
والحمد لله شكر على العطاء.
والحمد يشترك معه في المعنى العام: ثناء وشُكْر ومدح
إلا أن هذه الألفاظ وإنْ تقاربت في المعنى العام فلكُلٍّ منها معناه الخاص
وكل هذه الألفاظ فيها ثناء
إلا أن الشكر يكون علي نعمة من مُنعَم عليه بنعمة خاصة به، كأن يُسدي لك إنسان جميلاً لك وحدك، فتشكره عليه.
ويكون الشكر بالقلب واللسان والجوارح
أما الحمد فيكون على نعمة عامة لك ولغيرك
فرُقْعة الحمد أوسع من رُقْعة الشكر
أما المدح فقد تمدح ما لا يعطيك شيئاً، كأن تمدح مثلاً الشكل الجميل لمجرد أنه أعجبك.
فقَوْلُ الحق: {الحمد لِلَّهِ} بالألف واللام الدالة على الحصر، فالمراد الحمد المطلق الكامل لله
الحمد المستوعب لكل شيء، حتى إنَّ حمدك لأيِّ إنسان قدَّم لك جميلاً فهو إذا سَلْسَلْتَهُ حَمْدٌ لله تعالى الذي أعان هذا الإنسان على أن يحسن إليك، فالجميل جاء من حركته، وحركته موهوبة له من خالقه
والنعمة التي أمدّك بها موهوبة من خالقه تعالى
وهكذا إذا سلسلتَ الحمد لأيِّ إنسان في الدنيا تجده يصل إلى المنعِم الأول سبحانه وتعالى.
وكلمة {الحمد لِلَّهِ} هذه هي الصيغة التي علمنا الله أنْ نحمدَهُ بها
وإلا فلو ترك لنا حرية التعبير عن الحمد ولم يُحدِّد لنا صيغة نحمده ونشكره بها لاختلف الخَلْق في الحمد
حَسْب قدراتهم
وتمكّنهم من الأداء
وحَسْب قدرتهم على استيعاب النعم،
ولوجدنا البليغ صاحب القدرة الأدائية أفصح من الأُمّي. فتحمّل الله عنا ذلك وجعل لنا جميعا صغيه نحمده بها ، وجعلها متساوية للجميع
الكل يقول {الحمد لِلَّهِ} البليغ يقولها
والأُمّي يقولها.
لذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يحمدُ الله ويُثنِي عليه: «سبحانك لا نحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيتَ على نفسك» .
فإنْ أردنا أنْ نُحصي الثناء عليك فلن نستطيع؛ لأن الثناء عليك لا يعرف مداه إلا أنت، ولا يُحصيه غيرك
ولا نملك إلا أنْ نقولَ ما علَّمتنا من حمدك: الحمد لله.
وهل من نعمة كبري في ذاتها تستحق الحمد أكبر من استواء الناس جميعا في قدرتهم علي استعمال صيغه واحدة للحمد لله
إذن: فاستواء الناس جميعاً في الحمد لله نعمة كبرى في ذاتها تستحق الحمد
فنقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله،
والحمْد الأول أيضاً نعمة
التكليف بالحمد لله ،عطاء الوهيه
أجر
وبذلك نقول: الحمد لله على ما عَلِمنا من الحمد لله بالحمد لله.
وهكذا، لو تتبعتَ الحمدَ لوجدته سلسلةً لا تنتهي، حَمْد على حَمْد على حَمْد على حَمْد، فيظل الله محموداً دائماً، يظل العبد حامداً إلى ما لا نهاية.
والحمد لله استهل بها الحق سبحانه خَمْس سور من القرآن: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2]
{الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1]
{الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب. .} [الكهف: 1] {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة} [سبأ: 1]
{الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ. .} [فاطر: 1]
ولكن، لكُلِّ حَمْد في كل سورة حيثية خاصة
فالحمد في الأولى لأن الله ربُّ العالمين، وربٌّ يعني الخالق والمتولي للتربية، خلق من عدم، وأمدَّ من عُدم، وتولّى تربية عباده، فهو رَبٌّ لكل العالمين؛ لذلك يجب أنْ نحمدَ الله على أنه هو الربُّ الذي خلق العالمين، وأمدَّهم بفضله.
وفي الثانية: نحمده سبحانه الذي خلق السماوات والأرض، وجعل الظلمات والنور، وهذه آيات من آيات الله ونِعَم من نِعَمه، فالسماوات والأرض فيها قيام البشر كله بما يمدُّ حياتهم بالقوت، ويستبقي نوعهم بالتكاثر
. والظلمات والنور مِنَ نعم الله، وهما متكاملان لا متضادان، فَلِلْظُّلمة مهمة، كما أن للنور مهمة،
الظلمة للسكون والراحة
والنور للسعي والحركة،
ولا يمكن لسَاعٍ أنْ يسعى ويجدّ في عمل، إلا إذا ارتاح وسكن وجدَّد نشاطه
فتقابُل الظلمة والنور للتكامل
فالحياة لا تستقيم في ظلام دائم، كما أنها لا تستقيم في نور دائم.
وفي السورة الثالثة من السور التي افتتحها الحق سبحانه ب {الحمد لِلَّهِالذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب. .} [الكهف: 1] } والتي نحن بصددها أراد الحق سبحانه أنْ يُوضّح أنه لم يُربِّ الخلْق تربية مادية فقط
بل هناك تربية أعلى من المادة تربية روحية
فذكر هنا الحيثية الحقيقية لخَلْق الإنسان، فهو لم يُخلق لمادته فحسْب، ولكن لرسالة أسمى
خلق ليعرف القيم والرب والدين
وأنْ يعملَ لحياة أخرى غير هذه الحياة المادية
فقال تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب. .} [الكهف: 1]
فحيثية الحمد هنا إنزالُ الكتاب الذي يجمع كل القيم.
قال تعالي (قَيِّمًا لِّيُنذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا(٢)) سورة الكهف
وعلمنا في هذا الكتاب القيم حقيقه الدنيا التي نعيشها
قال تعالي (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)) سورة الحديد
إن الحق سبحانه محمود برحمانيته قبل أنْ يخلق الخَلْق وضع له النماذج التي تُصلِح حركة الحياة
كما قال تعالى: {الرحمن عَلَّمَ القرآن خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 1 - 4]
فتعليم القرآن جاء قبل خَلْق الإنسان
إذن: وضع الحق سبحانه لعباده المنهج المنظِّم لحياتهم قبل أن يخلقَهم، لعِلْمه سبحانه بطبيعة خَلْقه، وبما يصلحهم
كالمخترع للآلة الذي يعلم مهمتها ويُحدد قانون صيانتها،
فالكتاب الذي نزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو المهمة الأساسية، فيجب أنْ نوطّن عليها أنفسنا، ونعلَم أنه المنظِّم لحياتنا، وبه قانون صيانتنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق