السبت، 20 يونيو 2020

فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في إصلاح الطعام الذي يقع فيه الذُّباب وإرشاده إلى دفع مَضَرَّات السموم بأضدادها:

في الصحيحين من حديث أبى هُريرة، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا وقَعَ الُّذَبابُ في إناءِ أحَدِكُم، فامْقُلُوه، فإنَّ في أحد جنَاحيهِ داءً، وفي الآخرِ شِفَاءً».
وفي سنن ابن ماجه عنِ أبى سعيد الخُدْرىِّ، أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أحَدُ جَناحَى الذُّبابِ سَمٌ، والآخَرُ شِفَاءٌ، فإذا وَقَعَ في الطَّعَام، فامْقُلُوه، فإنه يُقَدِّمُ السُّمَّ، ويُؤَخِّرُ الشِّفَاءَ».
هذا الحديث فيه أمران: أمرٌ فقهىٌ، وأمرٌ طِبِّىٌ فأما الفقهى.. فهو دليلٌ ظاهر الدلالةِ جدًا على أنَّ الذُّباب إذا مات في ماء أو مائع، فإنه لا يُنجِّسه، وهذا قول جمهور العلماء، ولا يُعرف في السَّلَف مخالفٌ في ذلك. ووَجهُ الاستدلال به أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر بمَقْلِهِ، وهو غمسُه في الطعام، ومعلومٌ أنه يموت من ذلك، ولا سِيَّما إذا كان الطعامُ حاراً. فلو كان يُنجسه لكان أمراً بإفساد الطعام، وهو صلى الله عليه وسلم إنما أمر بإصلاحه، ثم عُدِّىَ هذا الحكمُ إلى كل ما لا نفس له سائلة، كالنحلة والزُّنْبُور، والعنكبوت، وأشباهِ ذلك. إذ الحكمُ يَعُمُّ بعُموم عِلَّتِه، وينتفي لانتفاء سببه، فلما كان سبب التنجيس هو الدم المحتقن في الحيوان بموته، وكان ذلك مفقوداً فيما لا دم له سائل انتفى الحكم بالتنجيس لانتفاءِ عِلَّّته.
ثم قال مَن لم يحكم بنجاسة عظم الميتةِ: إذا كان هذا ثابتاً في الحيوان الكامل مع ما فيه من الرُّطوبات، والفضلات، وعدم الصلابة، فثبوته في العظم الذي هو أبعدُ عن الرُّطوبات والفضلات، واحتقان الدم أولى، وهذا في غاية القوة، فالمصيرُ إليه أولى.
وأول مَن حُفظ عنه في الإسلام أنه تكلَّم بهذه اللَّفظة، فقال: ما لا نفسَ له سائلة؛ إبراهيم النخَعىُّ وعنه تلقاها الفقهاءُ والنفس في اللُّغة: يُعَبَّر بها عن الدم، ومنه نَفَست المرأة بفتح النون إذا حاضت، ونُفِست بضمها إذا ولدت.
وأما المعنى الطبىُّ، فقال أبو عُبَيْد: معنى «امْقُلُوه»: اغمسوه ليخرج الشفاء منه، كما خرج الداءُ، يقال للرجلين: هما يَتمَاقلان، إذا تغاطَّا في الماء.
واعلم أنَّ في الذُّباب عندهم قُوَّةً سُمِّيَّةً يدل عليها الورم، والحِكَّة العارِضة عن لسعِه، وهى بمنزلة السِّلاح، فإذا سقط فيما يؤذيه، اتقاه بسلاحه، فأمر النبيّ صلى الله عليه وسلم أن يُقابلَ تلك السُّمية بما أودعه الله سبحانه في جناحه الآخر من الشفاء، فيُغمسَ كُلُّه في الماء والطعام، فيقابل المادةَ السُّمية المادة النافعة، فيزول ضررُها. وهذا طِبٌ لا يهتدى إليه كبار الأطباء وأئمتهم، بل هو خارجٌ من مِشكاة النُبوَّة، ومع هذا فالطبيب العالِم العارِف الموفَّق يخضع لهذا العلاج، ويُقِرُّ لمن جاء به بأنه أكملُ الخلق على الإطلاق، وأنه مُؤَيَّد بوحى إلهى خارج عن القُوَى البَشَرية.
وقد ذكر غيرُ واحد من الأطباء أن لسع الزُّنبور والعقرب إذا دُلِكَ موضعه بالذُّباب نفع منه نفعاً بيِّناً، وسكَّنه، وما ذاك إلا للمادة التي فيه من الشفاء، وإذا دُلِكَ به الورمُ الذي يخرج في شعر العَيْن المسمَّى شَعْرَة بعد قطع رؤوس الذُّباب، أبرأه.

.فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج البَثْرَة:

ذكر ابن السُّنى في كتابه عن بعض أزواج النبيّ صلى الله عليه وسلم، قالت: دخل علىَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وقد خرج في أصبعى بَثْرَةٌ، فقال: «عِنْدَكِ ذَرِيرةٌ»؟ قلت: نعم. قال: «ضَعيها عليها»، وقُولى: «اللَّهُمَّ مُصَغِّرَ الكَبِيرِ، ومُكبِّرَ الصَغِيرِ، صَغِّرْ مَا بِى».
الذَّرِيرةُ: دواء هندى يُتخذ من قَصب الذَّريرة، وهى حارة يابسة تنفعُ مِن أورام المَعِدَة والكَبِدِ والاستسقاء، وتُقوِّى القلب لطيبها،
وفي الصحيحين عن عائشة أنها قالت: طيَّبْتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بيَدِى بذَرِيرةٍ في حَجَّةِ الوَداع للحِلِّ والإحْرَامِ.
والبَثْرَة: خُراج صغير يكون عن مادة حارة تدفعها الطبيعة، فتسترقُّ مكاناً من الجسد تخرج منه، فهى محتاجة إلى ما يُنضجها ويُخرجها، والذَّريرةُ أحدُ ما يفعل بها ذلك، فإنَّ فيها إنضاجاً وإخراجاً مع طِيب رائحتها، مع أنَّ فيها تبريداً للنارية التي في تلك المادة، ولذلك قال صاحب القانون: إنه لا أفضل لحرق النار من الذَّرِيرة بدُهنِ الوردِ والخل.

.فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في علاج الأورام والخُرَاجات التي تبرأ بالبَطِّ والبَزْلِ:

يُذكر عن علىٍّ أنه قال: دخلتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل يعودُه بظهره ورمٌ، فقالوا: يا رسول الله؛ بهذه مِدَّةٌ. قال: «بُطُّوا عنه»، قال علىُّ: فما بَرِحتُ حتى بُطَّتْ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم شاهدٌ.
ويُذكر عن أبى هريرة: أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم أمر طبيباً أن يَبُطَّ بطن رجل أجْوَى البطن، فقيل: يا رسول الله؛ هل ينفع الطّبُّ؟ قال: «الذى أنْزَلَ الداء، أنزل الشِّفَاء، فِيمَا شاء»

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق