فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في الإرشاد إلى معالجة أحْذَق الطَّبِيبَيْن:
ذكر مالك في موطئه: عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم. وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال لهما: «أَيُّكما أطَبُّ»؟ فقال: أوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله؟ فقال: «أنزلَ الدواءَ الذي أنزلَ الداء».
ففي هذا الحديث أنه ينبغى الاستعانةُ في كل عِلم وصِناعة بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ.
وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه.
وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر في البرِّ والبحر إنَّما سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ، فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «أنزل الدواءَ الذي أنزلَ الداءَ»، قد جاء مثلُه عنه في أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال: دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على مريض يَعودُه، فقال: «أرسِلُوا إلى طَبيبٍ»، فقال قائلٌ: وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: «نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ أنزَلَ له دَواءً».
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه: «ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء»، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه.
واختُلِفَ في معنى «أنزل الداءَ والدواء»، فقالت طائفةٌ: إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشىء، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال: «عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه».
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما: خَلْقُهما ووضْعُهما في الأرض، كما في الحديث الآخر: «إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً»، وهذا وإن كان أقربَ مِن الذي قبله، فلَفْظةُ الإنزال أخصُّ من لفظة الخلق والوضع، فلا ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب.
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع الإنسانىِّ من حين سقوطِه في رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله. وقالت طائفةٌ: إنَّ عامة الأدواء والأَدوية هي بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذي تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ، والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخلٌ في اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر:
عَلفْتُها تِبْناً وَمَاءً بارداً ** حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وقول الآخر:
وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا ** مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر:
إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ** وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ وَالْعُيُونا
وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه.. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته، فإنه كماابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعاً وقدْراً مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشىء إلا أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلاء،
ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم في العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه.. وبالله المستعان.
.فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تضمين مَن طبَّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطِّب:
روى أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول ُالله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ».
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور: أمرٌ لُغوى، وأمرٌ فِقهى، وأمرٌ طبى.
فالطِّب بكسر الطاء في لغة العرب، يقال على معانٍ. منها الإصلاح. يقال: طببتُه: إذا أصلحته. ويقال: له طِبٌ بالأمور. أى: لُطفٌ وسياسة. قال الشاعر:
وإذا تغير من تميم أمرها ** كنت الطبيب لها برأي ثاقب
ومنها: الحِذق. قال الجوهرىُّ: كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال أبو عبيد: أصل الطِّب: الحِذْق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب: إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض. وقال غيرُه: رجل طبيبٌ؛ أى: حاذقٌ، سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته. قال علقمة:
فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَاءِ فَإنَّنى ** خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُه ** فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال عنترةُ:
إنْ تُغْدِفِي دُونى الْقِنَاعَ فَإنَّنِى ** طَبٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أى: إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذي قد لبس لأَمةَ حربه.
ومنها: العادة، يقال: ليس ذلك بطِبِّى، أى: عادتى، قال فَرْوةُ بن مُسَيكٍ:
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن ** منَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وقال أحمد بن الحسين المتنبى:
وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى ** بَغِيضٌ إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
ومنها: السِّحر؛ يقال: رجل مطبوب، أى: مسحور، وفي الصحيح من حديث عائشة لمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند رجليه، فقال أحدهما: ما بالُ الرَّجُلِ؟ قال الآخر: مَطْبُوبٌ. قال: مَن طَبَّه؟ قال: فلان اليهودىُّ.
قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحور: مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا: سليمٌ تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التي لا ماء فيها، فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك. ويقال الطِّبُّ لنفس الداء. قال ابْنُ أبى الأسلت:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى ** أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ؟
وأما قول الحماسى:
فإن كُنْتَ مَطْبُوباً فَلا زِلْتَ هَكَذَا ** وإن كُنْتَ مَسْحُوراً فلا بَرِئَ السِّحْرُ فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سُحِر، وأراد بالمسحور: العليل بالمرض.
قال الجوهرى: ويقال للعليل: مسحور. وأنشد البيت. ومعناه: إن كان هذا الذي قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله، سواء أكان سحراً أو مرضاً.
والطبُّ: مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ: هو العالِم بالأُمور، وكذلك الطبيبُ يقال له: طَب أيضاً. والطِّبُّ: بكسر الطاء: فِعْلُ الطبيب، والطُّبُّ بضم الطاء: اسم موضع. قاله ابن السِّيد، وأنشد:
فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ ** بِجَائِزَةِ الماءِ التي طَابَ طينُهَا وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ» ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر:
وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا
وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً في أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة:
.أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده:
فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ في وقت، وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه في وقته على الوجه الذي ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل في سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى في إيجابهما الضمانَ في ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه في مَظِنَّة العُدوان.
.فصل: القسمُ الثاني: متطبِّبٌ جاهِلٍ:
باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له في طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهر الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له في طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
.فصل: القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق:
أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة في ماله، أو في بيت المال؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففي ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب في مال الجانى؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
.فصل: القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته:
اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض في بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد في خطإ الإمام والحاكم.
.فصل: القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها:
فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ.
وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ في إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
والطبيبُ في هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذي يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
.فصل: [فيما يراعيه الطبيب الحاذق]:
والطبيب الحاذق: هو الذي يراعى في علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر في نوع المرض من أى الأمراض هو؟
الثاني: النظر في سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التي كانت سببَ حدوثه ما هى؟
الثالث: قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه؟ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء في وقت المرض.
الحادى عشر: النظر في الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثاني عشر: النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر في العِلَّة، هل هي مما يمكن علاجُها أو لا؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ في دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها في ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في التخييل فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التي يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله أعلم.
.فصل: [مراعاةُ الطبيبِ لأحوالِ المرضِ]:
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ في كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى في ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك في صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب في هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ في استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ في الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ في الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هي في ابتدائه،
وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء.
.فصل: [الطبيب يبدأ بالأسهل]:
ذكر مالك في موطئه: عن زيد بن أسلمَ، أنَّ رجلاً في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابه جُرْحٌ، فاحتَقَن الجُرْحُ الدَّم. وأن الرجلَ دعا رجُلَيْن من بنى أنمار، فنَظَرا إليه فزعما أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، قال لهما: «أَيُّكما أطَبُّ»؟ فقال: أوَ في الطِّبِّ خيرٌ يا رسولَ الله؟ فقال: «أنزلَ الدواءَ الذي أنزلَ الداء».
ففي هذا الحديث أنه ينبغى الاستعانةُ في كل عِلم وصِناعة بأحذقِ مَنْ فيها فالأحذق، فإنه إلى الإصابة أقربُ.
وهكذا يجب على المُستفتى أن يستعينَ على ما نَزلَ به بالأعلم فالأعلم، لأنه أقربُ إصابةً ممَّن هُوَ دُونَه.
وكذلك مَن خَفيتْ عليه القِبْلةُ، فإنه يُقلِّدُ أعلمَ مَن يَجدُه، وعلى هذا فَطَر الله عبادَه، كما أن المسافر في البرِّ والبحر إنَّما سكونُ نفسه، وطمأنينتُه إلى أحْذقِ الدليلَيْن وأخبَرِهما، وله يَقصِدُ، وعليه يَعتمِدُ، فقد اتفقتْ على هذا الشريعةُ والفِطرةُ والعقلُ.
وقولُه صلى الله عليه وسلم: «أنزل الدواءَ الذي أنزلَ الداءَ»، قد جاء مثلُه عنه في أحاديث كثيرةٍ، فمنها ما رواه عمرو بن دِينارٍ عن هِلال بن يِسَافٍ، قال: دخلَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على مريض يَعودُه، فقال: «أرسِلُوا إلى طَبيبٍ»، فقال قائلٌ: وأنتَ تقولُ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: «نعمْ، إنَّ الله عَزَّ وجَلَّ لم يُنْزِلْ داءً إلاَّ أنزَلَ له دَواءً».
وفي الصحيحين من حديث أبى هريرةَ يَرفعُه: «ما أنزلَ اللهُ من داءٍ إلا أنزلَ له شفاء»، وقد تقدَّم هذا الحديثُ وغيرُه.
واختُلِفَ في معنى «أنزل الداءَ والدواء»، فقالت طائفةٌ: إنزالُه إعلامُ العِباد به، وليس بشىء، فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ بعموم الإنزال لكل داءٍ ودوائه، وأكثرُ الخلق لايعلمون ذلك، ولهذا قال: «عَلِمَه مَن عَلِمَه، وجَهِلَه مَن جَهِلَه».
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما: خَلْقُهما ووضْعُهما في الأرض، كما في الحديث الآخر: «إنَّ الله لم يَضعْ داءً إلاَّ وَضَعَ له دواءً»، وهذا وإن كان أقربَ مِن الذي قبله، فلَفْظةُ الإنزال أخصُّ من لفظة الخلق والوضع، فلا ينبغى إسقاطُ خصوصيةِ اللَّفظة بلا موجِب.
وقالت طائفةٌ: إنزالُهما بواسطةِ الملائكة الموكلين بمباشرة الخلق من داء ودواء وغيرِ ذلك، فإنَّ الملائكة موكَّلَةٌ بأمر هذا العالَم، وأمر النوع الإنسانىِّ من حين سقوطِه في رَحِم أُمِّه إلى حين موتِه، فإنزالُ الداء والدواء مع الملائكة، وهذا أقربُ من الوجهين قبله. وقالت طائفةٌ: إنَّ عامة الأدواء والأَدوية هي بواسطة إنزال الغَيْثِ من السماء الذي تَتولَّد به الأغذيةُ، والأَقواتُ، والأدويةُ، والأدواءُ، وآلاتُ ذلك كله، وأسبابُه ومكمِّلاتُه؛ وما كان منها مِن المعادن العُلوية، فهى تَنزل مِن الجبال، وما كان منها من الأودية والأنهار والثمار، فداخلٌ في اللَّفظ على طريق التغليبِ والاكتفاءِ عن الفعلين بفعل واحد يتضمنهما، وهو معروف من لغة العرب، بل وغيرها من الأُمم، كقول الشاعر:
عَلفْتُها تِبْناً وَمَاءً بارداً ** حَتَّى غَدَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وقول الآخر:
وَرأَيْتُ زَوْجكِ قَدْ غَدَا ** مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحَا
وقول الآخر:
إذَا مَا الغَانِياتُ بَرَزْنَ يَوْماً ** وَزَجَّجْنَ الْحَواجِبَ وَالْعُيُونا
وهذا أحسنُ مما قبله من الوجوه.. والله أعلم.
وهذا من تمام حكمة الربِّ عَزَّ وجَلَّ، وتمامِ ربوبيته، فإنه كماابتلى عبادَه بالأدواء، أعانهم عليها بما يسَّرَهُ لهم من الأدوية، وكما ابتلاهم بالذنوب أعانهم عليها بالتوبة، والحسناتِ الماحية والمصائب المكفِّرة، وكما ابتلاهم بالأرواح الخبيثةِ من الشياطين، أعانهم عليها بجُنْدٍ من الأرواح الطيبة، وهم الملائكة، وكما ابتلاهم بالشهوات أعانهم على قضائها بما يسَّرَهُ لهم شرعاً وقدْراً مِن المشتهيات اللَّذيذة النافعة، فما ابتلاهم سُبحانه بشىء إلا أعطاهم ما يستعينُون به على ذلك البلاء،
ويدفعُونه به، ويبقى التفاوتُ بينهم في العلم بذلك، والعلم بطريق حصوله والتوصل إليه.. وبالله المستعان.
.فصل: في هَدْيه صلى الله عليه وسلم في تضمين مَن طبَّ الناس وهو جَاهِلٌ بالطِّب:
روى أبو داود، والنسائىُّ، وابن ماجه، من حديث عمرو ابن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول ُالله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تطبَّبَ ولم يُعْلَم مِنْهُ الطِّبُّ قَبْلَ ذلك، فهو ضَامِنٌ».
هذا الحديث يتعلق به ثلاثة أُمور: أمرٌ لُغوى، وأمرٌ فِقهى، وأمرٌ طبى.
فالطِّب بكسر الطاء في لغة العرب، يقال على معانٍ. منها الإصلاح. يقال: طببتُه: إذا أصلحته. ويقال: له طِبٌ بالأمور. أى: لُطفٌ وسياسة. قال الشاعر:
وإذا تغير من تميم أمرها ** كنت الطبيب لها برأي ثاقب
ومنها: الحِذق. قال الجوهرىُّ: كلُّ حاذقٍ طبيبٌ عند العرب، قال أبو عبيد: أصل الطِّب: الحِذْق بالأشياء والمهارة بها. يقال للرجل: طب وطبيب: إذا كان كذلك، وإن كان في غير علاج المريض. وقال غيرُه: رجل طبيبٌ؛ أى: حاذقٌ، سمى طبيباً لحِذقه وفِطْنته. قال علقمة:
فَإنْ تَسْأَلُونى بِالنِّسَاءِ فَإنَّنى ** خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
إذَا شَابَ رَأْسُ الْمَرْءِ أَوْ قَلَّ مَالُه ** فَلَيْسَ لَهُ مِنْ وُدِّهِنَّ نَصِيبُ
وقال عنترةُ:
إنْ تُغْدِفِي دُونى الْقِنَاعَ فَإنَّنِى ** طَبٌ بِأَخْذِ الْفَارِسِ الْمُسْتَلْئِمِ
أى: إن تُرخى عنى قِناعك، وتَستُرى وجهك رغبةً عنى، فإنى خبيرٌ حاذقٌ بأخذ الفارس الذي قد لبس لأَمةَ حربه.
ومنها: العادة، يقال: ليس ذلك بطِبِّى، أى: عادتى، قال فَرْوةُ بن مُسَيكٍ:
فَمَا إِنْ طِبُّنَا جُبْنٌ وَلَكِن ** منَايَانَا وَدَوْلَةُ آخَرِينَا
وقال أحمد بن الحسين المتنبى:
وَمَا التِّيهُ طِبِّى فِيهِمُ غَيْرَ أَنَّنِى ** بَغِيضٌ إلَىَّ الْجَاهِلُ الْمُتَعَاقِلُ
ومنها: السِّحر؛ يقال: رجل مطبوب، أى: مسحور، وفي الصحيح من حديث عائشة لمَّا سحرت يهودُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وجلس الملَكَانِ عِنْدَ رأسه وعند رجليه، فقال أحدهما: ما بالُ الرَّجُلِ؟ قال الآخر: مَطْبُوبٌ. قال: مَن طَبَّه؟ قال: فلان اليهودىُّ.
قال أبو عبيد: إنما قالوا للمسحور: مَطْبُوب؛ لأنهم كنَّوْا بالطِّبِّ عن السِّحر، كما كنَّوا عن اللَّديغ، فقالوا: سليمٌ تفاؤلاً بالسلامة، وكما كنَّوا بالمفازة عن الفلاة المُهلكة التي لا ماء فيها، فقالوا: مفازة تفاؤلاً بالفوز من الهلاك. ويقال الطِّبُّ لنفس الداء. قال ابْنُ أبى الأسلت:
أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ حَسَّانَ عَنِّى ** أَسِحْرٌ كَانَ طِبُّكَ أَمْ جُنُونُ؟
وأما قول الحماسى:
فإن كُنْتَ مَطْبُوباً فَلا زِلْتَ هَكَذَا ** وإن كُنْتَ مَسْحُوراً فلا بَرِئَ السِّحْرُ فإنه أراد بالمطبوب الذي قد سُحِر، وأراد بالمسحور: العليل بالمرض.
قال الجوهرى: ويقال للعليل: مسحور. وأنشد البيت. ومعناه: إن كان هذا الذي قد عرانى منكِ ومِن حُبِّك أسألُ اللهَ دوامه، ولا أريدُ زواله، سواء أكان سحراً أو مرضاً.
والطبُّ: مثلثُ الطاء، فالمفتوح الطاءُ: هو العالِم بالأُمور، وكذلك الطبيبُ يقال له: طَب أيضاً. والطِّبُّ: بكسر الطاء: فِعْلُ الطبيب، والطُّبُّ بضم الطاء: اسم موضع. قاله ابن السِّيد، وأنشد:
فَقُلْتُ هَل انْهَلْتُم بِطُبَّ رِكَابَكُمْ ** بِجَائِزَةِ الماءِ التي طَابَ طينُهَا وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَطَبَّبَ» ولم يقل: مَن طَبَّ، لأن لفظ التَّفعل يدل على تكلُّف الشىء والدخول فيه بُعسر وكُلفة، وأنه ليس من أهله، كتَحَلَّم وتشجَّع وتصبَّر ونظائرِها، وكذلك بَنَوْا تكلَّف على هذا الوزن، قال الشاعر:
وَقَيسَ عَيْلانَ ومَنْ تَقَيَّسَا
وأما الأمر الشرعىُّ: فإيجابُ الضمان على الطبيب الجاهل، فإذا تعاطى عِلمَ الطِّب وعمله، ولم يتقدم له به معرفة، فقد هَجم بجهله على إتلافِ الأنفس، وأقْدَم بالتهوُّر على ما لم يعلمه، فيكون قد غَرَّرَ بالعليل، فيلزمه الضمانُ لذلك، وهذا إجماع من أهل العلم.
قال الخطَّابىُّ: لا أعلم خلافاً في أن المعالِج إذا تعدَّى، فتَلِفَ المريضُ كان ضامناً، والمتعاطى علماً أو عملاً لا يعرفه متعد، فإذا تولَّد من فعله التلف ضمن الدية، وسقط عنه القَودُ، لأنه لا يستبِدُّ بذلك بدون إذن المريض وجنايةُ المُتطبب في قول عامة الفقهاء على عاقِلَتِه.
قلت: الأقسام خمسة:
.أحدها: طبيب حاذق أعطى الصنعةَ حقَّها ولم تجن يده:
فتولَّد من فعله المأذون فيه من جهة الشارع، ومن جهة مَن يطبُّه تلفُ العضو أو النفس، أو ذهابُ صفةٍ، فهذا لا ضمان عليه اتفاقاً، فإنها سِراية مأذونٍ فيه، وهذا كما إذا خَتَنَ الصبىَّ في وقت، وسِنٍّه قابل للختان، وأعطى الصنعةَ حقَّها، فَتَلِفَ العضو أو الصبىُّ، لم يضمن، وكذلك إذا بَطَّ مِن عاقل أو غيرِه ما ينبغى بطُّه في وقته على الوجه الذي ينبغى فَتَلِفَ به، لم يضمن، وهكذا سِراية كُلِّ مأذون فيه لم يتعدَّ الفاعل في سببها، كسِراية الحدِّ بالاتفاق. وسِرايةِ القِصاص عند الجمهور خلافاً لأبى حنيفة في إيجابه الضمان بها، وسِراية التعزير، وضربِ الرجل امرأته، والمُعلِّم الصبىَّ، والمستأجر الدابة، خلافاً لأبى حنيفة والشافعى في إيجابهما الضمانَ في ذلك، واستثنى الشافعى ضَرْبَ الدابة. وقاعدةُ الباب إجماعاً ونزاعاً: أنَّ سِراية الجناية مضمونةٌ بالاتفاق، وسِراية الواجب مُهْدَرةٌ بالاتفاق، وما بينهما ففيه النزاع. فأبو حنيفة أوجب ضمانَه مطلقاً، وأحمد ومالكٌ أهدرا ضمانه، وفرَّقَ الشافعىُّ بين المقدَّر، فأهدر ضمانه، وبين غيرِ المُقَدَّر فأوجبَ ضمانه. فأبو حنيفة نظر إلى أن الإذن في الفعل إنما وقع مشروطاً بالسلامة، وأحمد ومالك نظرا إلى أنَّ الإذن أسقط الضمانَ، والشافعىُّ نظر إلى أنَّ المُقَدَّر لا يمكن النقصان منه، فهو بمنزلة النص، وأما غيرُ المُقَدَّر كالتَّعزيرات، والتأديبات فاجتهاديةٌ، فإذا تَلِفَ بها، ضمن، لأنه في مَظِنَّة العُدوان.
.فصل: القسمُ الثاني: متطبِّبٌ جاهِلٍ:
باشرت يدُه مَن يَطُبُّه، فتَلِفَ به، فهذا إن علم المجنىُّ عليه أنه جاهل لا عِلْمَ له، وأَذِنَ له في طِبه لم يضمن، ولا تُخالف هذه الصورة ظاهر الحديث، فإنَّ السِّياق وقوة الكلام يدلُّ على أنه غرَّ العليل، وأوهمه أنه طبيب، وليس كذلك، وإن ظنَّ المريضُ أنه طبيب، وأذن له في طِبه لأجل معرفته، ضَمِنَ الطبيبُ ما جنت يده، وكذلك إن وصف له دواء يستعملُه، والعليلُ يظن أنه وصفه لمعرفته وحِذْقه فتَلِفَ به، ضمنه، والحديثُ ظاهر فيه أو صريح.
.فصل: القسم الثالث: طبيبٌ حاذِق:
أُذن له، وأعطى الصَّنعة حقها، لكنه أخطأت يدُه، وتعدَّت إلى عضو صحيح فأتلفه، مِثل: أن سبقت يدُ الخاتن إلى الكَمَرَةِ، فهذا يضمَنُ، لأنها جِنَايةُ خطإٍ، ثم إن كانت الثُّلُث فما زاد، فهو على عاقِلَتِه، فإن لم تكن عاقلةٌ، فهل تكون الدِّيَة في ماله، أو في بيت المال؟ على قوليْن، هما روايتان عن أحمد. وقيل: إن كان الطبيب ذِمِّيا، ففي ماله؛ وإن كان مسلماً، ففيه الروايتان، فإن لم يكن بيتُ المال، أو تعذَّر تحميلُه، فهل تسقط الدِّيَة، أو تجب في مال الجانى؟ فيه وجهان أشهرهما: سقوطها.
.فصل: القسم الرابع: الطبيبُ الحاذِق الماهر بصناعته:
اجتهد فوصف للمريض دواءً، فأخطأ في اجتهاده، فقتله، فهذا يُخرَّج على روايتين؛ إحداهما: أنَّ دِيةَ المريض في بيت المال. والثانية: أنها على عاقلة الطبيب، وقد نص عليهما الإمامُ أحمد في خطإ الإمام والحاكم.
.فصل: القسم الخامس: طبيبٌ حاذق، أعطى الصنعةَ حقها:
فقطع سِلْعَةً من رجل أو صبى، أو مجنون بغير إذنه، أو إذن وَليِّه، أو خَتَنَ صبياً بغير إذن وَليِّه فَتَلِفَ، فقال أصحابُنا: يضمن، لأنه تولَّد من فعلٍ غير مأذون فيه، وإن أذن له البالغ، أو وَلِىُّ الصبى والمجنون، لم يضمن، ويحتمِلُ أنْ لا يضمَن مطلقاً لأنه محسنٌ، وما على المُحسنين من سبيلٍ.
وأيضاً فإنه إن كان متعدِّياً، فلا أثر لإذن الولىّ في إسقاطِ الضمان، وإن لم يكن متعدِّياً، فلا وجه لضمانه.
فإن قلتَ: هو متعدٍّ عند عدم الإذن، غير متعدٍّ عند الإذن.
قلتُ: العُدوان وعدمه إنما يرجع إلى فعله هو، فلا أثر للإذن وعدمه فيه، وهذا موضع نظر.
والطبيبُ في هذا الحديث يتناول مَن يطب بوصفه وقوله، وهو الذي يُخَصُّ باسم الطَّبائعى، وبمرْوَدِهِ وهو الكحَّال، وبِمبضَعه ومراهِمه وهو الجرائحىُّ، وبمُوساه وهو الخاتِن، وبريشته وهو الفاصد، وبمَحاجمه ومِشْرَطِه وهو الحجَّام، وبخَلْعِه ووَصْله ورِباطه وهو المجبِّر، وبمكواته وناره وهو الكوَّاء، وبقِربته وهو الحاقن.
وسواء أكان طبه لحيوان بهيمٍ، أو إنسان، فاسمُ الطبيب يُطلق لغةً على هؤلاء كلهم، كما تقدَّم، وتخصيصُ الناس له ببعض أنواع الأطباء عُرْفٌ حادث، كتخصيص لفظ الدابة بما يخصُّها به كُلُّ قوم.
.فصل: [فيما يراعيه الطبيب الحاذق]:
والطبيب الحاذق: هو الذي يراعى في علاجه عشرين أمراً:
أحدها: النظر في نوع المرض من أى الأمراض هو؟
الثاني: النظر في سببه من أى شىء حدث، والعِلَّةُ الفاعلةُ التي كانت سببَ حدوثه ما هى؟
الثالث: قوة المريض، وهل هي مقاومة للمرض، أو أضعفُ منه؟ فإن كانت مقاومةً للمرض، مستظهرة عليه، تركها والمرض، ولم يُحَرِّكْ بالدواء ساكناً.
الرابع: مزاج البدن الطبيعى ما هو؟
الخامس: المزاجُ الحادث على غير المجرى الطبيعى.
السادس: سِنُّ المريض.
السابع: عادته.
الثامن: الوقت الحاضر من فصول السنة وما يليق به.
التاسع: بلدُ المريض وتُربتُه.
العاشر: حال الهواء في وقت المرض.
الحادى عشر: النظر في الدواء المضاد لتلك العِلَّة.
الثاني عشر: النظر في قوة الدواء ودرجته، والموازنة بينها وبين قوة المريض.
الثالث عشر: ألا يكون كلُّ قصده إزالة تلك العِلَّة فقط، بل إزالتُها على وجهٍ يأمن معه حدوث أصعبَ منها، فمتى كان إزالتها لا يأمن معها حدوث عِلَّةٍ أُخرى أصعبَ منها، أبقاها على حالها، وتلطيفها هو الواجب، وهذا كمرض أفواه العروق، فإنه متى عُولج بقطعه وحبسه خِيف حدوث ما هو أصعبُ منه.
الرابع عشر: أن يُعالِج بالأسهل فالأسهل، فلا يَنتقِلُ من العلاج بالغذاء إلى الدواء إلا عند تعذُّرِه، ولا ينتقِلُ إلى الدواء المركَّب إلا عند تعذرِ الدواء البسيط، فمن حذق الطبيب علاجُه بالأغذية بدل الأدوية، وبالأدوية البسيطة بدل المركَّبة.
الخامس عشر: أن ينظر في العِلَّة، هل هي مما يمكن علاجُها أو لا؟ فإن لم يُمكن علاجُها، حفظ صِناعته وحُرمتَه، ولا يحمِلُه الطمع على علاج لا يفيد شيئاً. وإن أمكن علاجها، نظر هل يمكن زوالُها أم لا؟ فإن علم أنه لا يمكن زوالُها، نظر هل يمكن تخفيفُها وتقليلُها أم لا؟ فإن لم يمكن تقليلُها، ورأى أنَّ غاية الإمكان إيقافُها وقطعُ زيادتها، قصد بالعلاج ذلك، وأعان القوة، وأضعف المادة السادس عشر: ألا يتعرَّض للخلط قبل نُضجه باستفراغ، بل يقصد إنضاجه، فإذا تمَّ نضجُه، بادر إلى استفراغه.
السابع عشر: أن يكون له خِبْرة باعتلال القلوب والأرواح وأدويتها، وذلك أصل عظيم في علاج الأبدان، فإنَّ انفعال البدن وطبيعته عن النفس والقلب أمرٌ مشهود، والطبيب إذا كان عارفاً بأمراض القلب والروح وعلاجهما، كان هو الطبيبَ الكاملَ، والذى لا خِبْرة له بذلك وإن كان حاذقاً في علاج الطبيعة وأحوالِ البدن نصفُ طبيب. وكلُّ طبيب لا يداوى العليل، بتفقُّد قلبه وصلاحه، وتقويةِ روحه وقُواه بالصدقة، وفعل الخير، والإحسان، والإقبال على الله والدار الآخرة، فليس بطبيب، بل متطبِّبٌ قاصر. ومن أعظم علاجات المرض فعلُ الخير والإحسان والذِّكر والدعاء، والتضرع والابتهال إلى الله، والتوبة، ولهذه الأُمور تأثيرٌ في دفع العلل، وحصول الشفاء أعظمُ من الأدوية الطبيعية، ولكن بحسب استعداد النفس وقبولِها وعقيدتِها في ذلك ونفعه.
الثامن عشر: التلطفُ بالمريض، والرِّفق به، كالتلطُّف بالصبى.
التاسع عشر: أن يستعمل أنواع العِلاجات الطبيعية والإلهية، والعلاج بالتخييل، فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في التخييل فإنَّ لِحذَّاق الأطباء في أُموراً عجيبة لا يصل إليها الدواء، فالطبيب الحاذق يستعين على المرض بكل مُعين.
العشرون: وهو مِلاك أمر الطبيب أن يجعل علاجَه وتدبيرَه دائراً على سِتَّة أركان: حفظ الصحة الموجودة، وردِّ الصحة المفقودة بحسب الإمكان، وإزالة العِلَّة أو تقليلها بحسب الإمكان، واحتمالُ أدنى المفسدتَيْن لإزالة أعظمهما، وتفويتُ أدنى المصلحتَيْن لتحصيل أعظمهما، فعلى هذه الأُصول السِّتَّة مدارُ العلاج، وكلُّ طبيب لا تكون هذه أخِيَّته التي يرجع إليها، فليس بطبيب.. والله أعلم.
.فصل: [مراعاةُ الطبيبِ لأحوالِ المرضِ]:
ولما كان للمرض أربعةُ أحوال: ابتداءٌ، وصُعودٌ، وانتهاءٌ، وانحطاطٌ؛ تعيَّن على الطبيب مراعاةُ كل حال من أحوال المرض بما يُناسبها ويليق بها، ويستعمِلُ في كل حال ما يجبُ استعمالُه فيها. فإذا رأى في ابتداء المرض أنَّ الطبيعة محتاجة إلى ما يُحَرِّك الفضلات ويستفرِغُها لنضجها، بادر إليه، فإن فاته تحريك الطبيعة في ابتداء المرض لعائق منع من ذلك، أو لضعف القوة وعدم احتمالها للاستفراغ، أو لبرودة الفصل، أو لتفريط وقع، فينبغى أن يَحْذَرَ كل الحَذرِ أن يفعل ذلك في صعود المرض، لأنه إن فعله، تحيَّرت الطبيعة لاشتغالها بالدواء، وتخلَّت عن تدبير المرض ومقاومته بالكلية، ومثاله: أن يجىءَ إلى فارس مشغول بمواقعة عدوه، فيشغله عنه بأمر آخر، ولكن الواجب في هذه الحال أن يُعين الطبيعة على حفظ القوة ما أمكنه.
فإذا انتهى المرض ووقف وسكن، أخذ في استفراغه، واستئصال أسبابه، فإذا أخذ في الانحطاط، كان أولى بذلك. ومثالُُ هذا مثال العدو إذا انتهت قُوَّته، وفرغ سِلاحُه، كان أخذُه سهلاً، فإذا ولَّى وأخذ في الهرب، كان أسهلَ أخذاً، وحِدَّته وشَوْكتُه إنما هي في ابتدائه،
وحال استفراغه، وسعة قُوَّته، فهكذا الداء والدواء سواء.
.فصل: [الطبيب يبدأ بالأسهل]:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق