الأحد، 3 مايو 2020

الامن الغذائي والصدقات



قال تعالي ( خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)  أَلَـمْ يَعْلَـمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104))  سورة التوبة

(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103 ))سورة التوبة  
معانى الكلمات
تزكّيهم بها : تُنمّي بها حسناتهم و أموالهم 
صلّ عليهم : ادع لهم و استغفر لهم 
سكن لهم : طُمأنينةٌ . أو رحمة لهم
والصدقة واحدة من أبواب الأمن الغذائي في الإسلام ،لتعين من حالت ظروفه من توفير إحتياجاته التي تقيم حياته


وهذه الصدقه التي تشير إليها الأية  هي الصدقة غير الواجبة؛ لأنها لو كانت الصدقة الواجبة لما احتاجت إلى أمر جديد، بل هي صدقة الكفارة.
 وقوله الحق: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يعني أموال من اعترفوا بذنوبهم

 وقد نسب الأموال وملكيتها لهم، رغم أن المال كله لله، مصداقاً لقوله: {وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ ... } [النور: 33] 
ولكن الحق ينقله إلى خلقه تفضلاً منه، وأوضح سبحانه إذا قلت لكم: أخرجوا شيئاً من المال الذي وهبتكم إياه فلن أرجع فيما وهبته لكم، ولذلك إذا احتاج مؤمن شيئاً من مؤمن مثله، فالحق سبحانه وتعالى يقول: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله ... } [البقرة: 245] 
وسبحانه واهب المال وهو يحترم هبته لصاحب المال. وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
لاحظ فيه العلماء أن المال حين يضاف إلى صاحبه فهو تطمين له، حتى يتحرك في الحياة حركة فوق ما يحتاج، ويبقى له شيء يتموَّله، وبذلك يحرص الإنسان على الحركة التي ينتفع بها الغير، وإن لم يقصد. 

فيوضح له الحق: اطمئن إلى أن كل شيء سيزيد عن حاجتك يصبح ملكاً لك، ولا يخرج المال عن ملكية صاحبه إلا إذا كان صاحبه غير أهل للتصرّف، مصداقاً لقوله الحق: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ ... } [النساء: 5]
لأن السفيه لا يصح أن يتملك؛ لأنه بالحمق قد يضيع كل شيء، فينزل الحق الحكم: إن مال السفيه الذي يملكه ليس ماله إنما هو مالكم. 
ولكن إلى متى؟ 
فيأتي القول الحق: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ ... } [النساء: 6] 
أي: ردوا إليهم أموالهم متى عادوا إلى الرشد وصاروا أهلاً للملكية. 
والحق في هذه الآية يقول: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} 
والله سبحانه وتعالى هو صاحب المال، وهو يأتي بالمال، بالأسباب التي جعلها للبشر في حركة الحياة،  وأمَّنهم على ما يملكون؛ حتى لا يزهد أحد في الحركة؛
 فلو أخذ كل واحد من حركته على قدر نفسه، ولم يتملك المال؛ لضنّ الناس بالحركة.
 وإذا ضن الناس بالحركة؛ فلن يستفيد غير القادرين على الحركة، فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل ما يزيد على حاجات الناس ملْكاً لهم؛ لأن النفس تحب أن تتملك

والتملك أمر غريزي في النفس
 بدليل أن الله سبحانه وتعالى هو الذي طلب أن يؤخذ من الأموال، وأوضح أنه يضاعفها له، ومعنى أنه يضاعفها عنده أنه يُنمي فيه غريزة التملك.فالنفس تهوي وتحب الزيادة من المال فهذا شئ غريزي ،ويحفزهم الله بذلك كي ينفقوا وهم مطمئنين أن مالهم سيزيد
 وقوله الحق: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} 
نلحظ فيه أن الأموال أضيفت لأصحابها، ما لم يكن فيهم سفه في التصرف أو عدم رشد؛ بأن يكون وارث المال قاصراً لا يقدر على التصرف فيه، فأوضح لنا سبحانه: لا تعتبروا مال السفيه ولا مال القاصر ماله، ولكن ليرعى الوصيّ المال باعتبار أنه ماله هو
 وحذَّر سبحانه الوصيَّ: إياك أن تتعدى في ملكية هذا المال؛ لأن الذي جعله مالك، إنما جعل الملكية من أجل القيامة على المال، ولأجل هو أن يبلغ القاصر رشده، أو يرجع السفيه إلى عقله. {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً ... } [النساء: 5]
فإياك أيها الوصي، أن تظن أن الله قد أعطى لك هذا المال، بل جعل لك حق القيام عليه فقط
 ثم يقول سبحانه: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ}
ولم يقل: «فادفعوا إليهم أموالكم» وإلا كان الأمر صعباً على الناس.

 وهنا ملحظية لحظها العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، وهو أن المال إذا كان فيه حق معلوم للسائل والمحروم، فلا يصح أن ينسب الإنسان المال كله لنفسه؛ لأن له شركاء فيه هما السائل والمحروم، فالمال - إذن - ملكية صاحبه باستثناء حق السائل والمحروم. وفي آية أخرى قال الحق: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ لِّلسَّآئِلِ والمحروم} [المعارج: 24 - 25] 
و «الحق المعلوم» هو الزكاة المفترضة من نصاب معلوم بقدر معلوم  (حق مفروض )

وأما الصدقة فهي حق أيضاً، ولكن الذي يوجبها ويحددها هو صاحب المال على نفسه، وهو التطوع، 
ولذلك لم يقل: حق معلوم كما في سورة الذاريات: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 15 - 19] 
لقد ذكر سبحانه هنا الحق ولم يقل إنه معلوم؛ لأن صاحب المال داخل في مقام الإحسان
 وهو المقام الذي يلزم الإنسان فيه نفسه بشيء فوق ما فرض الله من جنس ما فرض الله.

 والله سبحانه لم يفرض على الإنسان،
 أن يقوم الليل كله،
 أو يظل الليل يستغفر،
 بل إن المسلم له أن يصلي العشاء وينام، ثم يقوم لصلاة الفجر. 
لكن إن وجد في نفسه نشاطاً ورغبة في الدخول إلي منزلة أعلي ، فهو يقوم الليل؛ لأنه يريد أن يدخل في مرتبة الإحسان. 
والمسلم لم يفرض الله عليه إلا صيام شهر رمضان ، فإن أحب الإستزادة من هذه الطاعه التي توجب تزكية النفس وارتقاء الروح ،صام الإثنين والخميس ، وله أن يزيد .... الي أن يصل صيام يوم وإفطار يوم كما فعل نبي الله داود  ، فهذا مرتبة  إحسان.
وكذلك يؤدي المسلم الزكاة وهذا حق معلوم، أما إن رغب المسلم في أن يدخل في مقام الإحسان فهو يزيد على الزكاة، وقد جعل الله هذا حقّاً لكنه غير معلوم؛ ليفسح لأريحيات الكرام أن يتجاوزوا الحق المعلوم، فبدلاً من اثنين ونصف بالمائة، قد يجعلها الداخل إلى مقام الإحسان ضعف ذلك أو أكثر.


 {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ}
والصدقة تطهرهم؛ لأن الذنب الذي فعلوه واعترفوا به تسبّب في تقذير أنفسهم بالمعصية، وما داموا قد قذروا أنفسهم بالمعصية، فهم في حاجة أن يُطهَّرُوا بالمال الذي كان سبباً في عدم ذهابهم إلى الغزوة.
 وانظر هناك إلى ملحظ «الأداء البياني» في القرآن، فالحق سبحانه يقول: {خُذْ} وهو أمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقول: {مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} من أموال الأغنياء، هذه الصدقة ستذهب للمحتاج
 إذن هنا أربعة عناصر: 
@آخذٌ                  هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
@  ومأخوذ منه     هو صاحب المال
@ ومأخوذ            هو المال
@ ومأخوذ له        هو الفقير المحتاج.
 وما دام الأمر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهذا الأمر ينسحب بالتالي على كل من وَلِيَ أمراً من أمور المسلمين. 

ولقائل أن يقول: ولكنها صدقة وليست زكاة.
 ونقول: ما دام الله هو الذي أمر بها تطهيراً فقد صارت واجباً، والآية صريحة، وتقتضي أنه ما دامت هناك ولاية شرعية.
 فولي الأمر هو الذي يأخذ من الناس ويؤدي للفقراء، أو لأوجه الصرف التي شرعها الله؛ لأن الله لا يريد أن يعذب الفقير بأن يمد يده آخذاً من مُسَاو له
 أما إن أخذ من الوالي وهو المسئول عن الفقراء، فلن يكون عيباً
الحكمة أن الولي الشرعي هو من وجب عليه أن يأخذ وأن يعطي  ،لماذا ؟
  الحق سبحانه يريد أن يحمي أهل الفقير من أن يعلموا أن البيت الفلاني يعطي لهم زكاة
 فيعاني أولاد الآخذ من المذلة أمام أولاد المعطي، ويعيش أبناء المعطي في تعال لا لزوم له.

 إذن: فحين يكون الوالي هو الذي يعطي فلن يكون هناك مُسْتعلٍ أو مُستعلىً عليه.
فإذ لم تكن هناك ولاية إسلامية؟
 أما إن لم تكن هناك ولاية إسلامية، ولا يعلم الإنسان إلى أين ستذهب الأموال، فهنا يصبح كل إنسان أن يراعي محيط دينه وهو يخرج الزكاة 
وحينئذ يكون عندنا
@  مُعْطٍ هو صاحب المال
@ ومال مُعْطىً
@ ومعطىً له هو الفقير.
 وعلى من يعود قوله الحق: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} ؟ التفكير السطحي في الفهم يقول : إنها تطهر من نأخذ منه المال، وتزكّى المال الذي نأخذ منه.

 لكن إذا تعمقنا في الفهم قليلاً لأدركنا التالي:
 ما دامت هناك في هذه الآية عناصر، فضروري أن يعود التطهير والتزكية عليهاجميعاً

@ وإنها تطهر وتزكي المأخوذ منه صاحب المال
@  وكذلك تطهر وتزكي المال المأخوذ وأيضاً تظهر وتزكي @  المأخوذ له وهو الفقير
س ما المقصود بالتطهير في هذه الأية؟
فليس المقصود بالتطهير هنا قتل الميكروبات الغير متحوصله ولا الحد من إنتشارها للوقايه من الأمراض 
ولكنه تطهير من مسببات أمراض أخري غير الميكروبات والصدقه هنا بمثابة التطعيم أو اللقاح 
 و التطهير هنا معناه إزالة قَذَر
 والتزكية نماء.
و القذارة  هي أمر عارض على الشيء الذي نغسله ونطهره

في الأمور المادية ، إن جاءت قذارة علي الملابس ،نغسلها ونظفها وربما نضع عليها معطر  فهذه تزكيه .
 وتنمية له بشيء عائد عليه فيزداد
 وهكذا تُطهر الصدقة وتزكى عناصر الفعل كلها. 

والتطهير لمن يعطي، له معنى مع، والزكاة لها معنى معه؛ لأنك إن أخذت منه المال، فقد يكون قد أدخل في ماله شيئاً فيه شبهة، فالصدقة والزكاة تطهران هذا المال.

 أما كيف تنمّي صاحب المال؟
أنت إن أخذت منه وهو قادر، معنى ذلك أنك تطمئنه أنه إذا احتاج فستعطيه
 وبهذا يعرف أنه لا يعيش في المجتمع بمفرده، ولا يخاف أن يضيع منه المال.
 فكأنك تطمئنه وتقول له: أنت لو احتجت فلن تضيع، وبذلك تُنمِّي تواجده وثقته، وطهرته أيضاً من أن يكون في ماله شبهة، هذا من ناحية صاحب المال.

 أما من ناحية المال نفسه
فالصدقة تطهر المال، لأن المال قد يزيد فيه شيء فيه شبهة فالزكاة تطهره. 
وقد يخيل إليك أنك حين تأخذ من المال فهو ينقص
عكس الربا الذي يزيد المال، فالربا مثلاً يحقق  أما المزكِّي  ينقص المال ظاهريا  فان كان مئه ، وأخذت عشره صار تسعين عكس الربا.
 ونظر السطحي : يرى أن الزكاة أنقصت المال وأن الربا يزيده، ولكن هذا بمقاييس البشر، لا بمقاييس من يملك الأشياء

 فالزكاة التي تعتبرونها نقصاً تنمّي
 والربا الذي تعتبرونه ينمّي إنما يُنقص
 والحق يقول: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات ... } [البقرة: 276] 
إذن: فهناك مقاييس عند البشر
 ومقاييس أخرى عند الحق سبحانه وتعالي رب البشر .
 فما رأيته منقصاً لك، هو عند الله زيادة
 وما رأيته مزيداً لك، هو في الواقع نقصٌ
 كيف ذلك ؟
 لأن الناس غالباً لا ينظرون إلا إلى رزق الوارد الإيجابي، ويظنون أن هذا هو الرزق، ولا يتذكرون أن هناك رزقاً اسمه «رزق السلب» 
 فرزق الإيجاب قد يزيد دخلك مثلاً من الف إلى الفين.
 وزرق السلب يتمثل في أنك تصرف الف فقط، بدلاً من أن تصرف الالفين، فيبقى لك الف، بالإضافة إلى أنه يمنع عنك مصارف الشر، هذا من ناحية المال.

 والحق يقول: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِندَ اللَّهِ ۖ وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39)} [الروم: ] 
قال بن كثير 
 وإنما الثواب عند الله في الزكاة ; ولهذا قال : ( وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون ) 
أي : الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء 
 كما [ جاء ] عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ ، وَلاَ يَقْبَلُ اللَّهُ إِلَّا الطَّيِّبَ ، وَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ ، ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهِ ، كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الجَبَلِ
وفي تفسير بن كثير، ورد في الصحيح وورد "مثل جبل أحد"

والسؤال كيف تكون الصدقة تطهيراً للآخذ وهو لم يذنب ذنباً يحتاج إلى تطهير، بل هو مُعطىً له لأنه محتاج؟ 
 إن الفقير المحتاج الذي يُعطي من مال الغير ، وهو عاجز عن الكسب فهو يتطهر من الحقد على ذي النعمة؛لماذا؟ 
لأنه وصله بعض من المال الذي عند ذي النعمة، فلا يحقد عليه ولا يحسده، فهو إن رأى عنده خيراً، دعا له بالزيادة؛ لأن بعضاً من الخير يعود عليه. 
والفلاحون في ريف مصر يهدون بعضهم بعضاً من خيرات الأرض ومن  لبن ماشيتهم، أو بعضاً من الخير الخارج من لبنها، وهكذا تتطهر نفس الفقير من الحقد والحسد. 
ولا يتمني زوال نعمة غيره بل يدعوا الله له بالزيادة والنماء 

إذن فماذا عن التزكية والنماء؟
إن الفقير ساعة يرى نفسه فقيراً، ويرى أن المجتمع الإيماني يقوم برعايته ولا يتركه وحيداً
 ويتسابق أهل الخير لنجدته، فنفسه تنمو بالاطمئنان؛ لأنه في مجتمع إيماني يحفظ حقه الذي كفله الله له ووعده أن له رزقه .

 إذن: فقوله الحق: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ}
راجع لكل العناصر في الآية. 
ثم يقول سبحانه: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} 
أي: ادع لهم بالخير؛ ولذلك كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلما أتاه قوم بأي صدقة قال: «اللهم صَلِّ عليهم»
فأتاه أبو أوفى بصدقته، فقال: «اللهم صَلِّ على آل أبي أوفى» 
 هذه هي التزكية القولية التي يحب كل مسلم أن يسمعها فيعطِي، 
 وقوله الحق: {إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ} 
أي: اطمئنان لهم، وما دام الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا له، فهو قد اطمأن إلى أن صدقته وصلت إلى مرتبة القبول حيث جازاها رسول الله بالدعاء. 
وإذا ما سمعها الآخذ للصدقة يقول بينه وبين نفسه: 
ولماذا لا أجِدّ في حياتي وأجتهد؛ حتى أظفر بتلك الدعوة من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ 
ويُنهي الحق الآية بقوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي أنه سبحانه {سَمِيعٌ} لكل ما تعتبره قولاً. 
و {عَلِيمٌ} بكل ما تعتبره فعلاً. 
------------------------------------------
والصدقات يجب أن تكون من الكسب الطيب
وَالْكَسْب الطّيب هُوَ من الْحَلَال قَالَ تَعَالَى: { انفقوا من طَيّبَات مَا كسبتم} ( الْبَقَرَة: 762) .

لِقَوْلِهِ تعالي  { ويُرْبى الصَّدَقَاتِ وَالله لاَ يُحِبُّ كلَّ كَفَّارٍ أثيمٍ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأقَامُوا الصَّلاَةَ واتُوا الزَّكَاةَ لَهُمْ أجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون}

 ( الْبَقَرَة: 672 و 772) .
وَإِنَّمَا لَا يقبل الله المَال الْحَرَام لِأَنَّهُ غير مَمْلُوك للمتصدق، وَهُوَ مَمْنُوع من التَّصَرُّف فِيهِ، وَالتَّصَدُّق بِهِ تصرف فِيهِ
ووجب أن  يكون طيبا خالي مما يشوبه وليس خبيثا { وَلَا تيمموا الْخَبيث مِنْهُ تنفقون} ( الْبَقَرَة: 762) .

لِ
وَلما قرن بَين قَوْله: { يمحق الله الرِّبَا} ( الْبَقَرَة: 672) .
وَبَين قَوْله: { ويربى الصَّدقَات} ( الْبَقَرَة: 672) .
بواو الْعَطف علم أَن إرباء الصَّدقَات إِنَّمَا يكون إِذا كَانَت من الْكسْب الْحَلَال بِقَرِينَة محقه الرِّبَا لكَونه حَرَامًا.
قَوْله: { وَالله لَا يحب كل كفار أثيم} ( الْبَقَرَة: 672) .
أَي: لَا يحب كفور الْقلب أثيم القَوْل وَالْفِعْل، وَلَا بُد من مُنَاسبَة فِي ختم هَذِه الْآيَة بِهَذِهِ الصّفة، وَهِي أَن المرابي لَا يرضى بِمَا قسم الله لَهُ من الْحَلَال، وَلَا يَكْتَفِي بِمَا شرع لَهُ من التكسب الْمُبَاح، فَهُوَ يسْعَى فِي أكل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ بأنواع المكاسب الخبيثة، فَهُوَ جحود لما عَلَيْهِ من النِّعْمَة، ظلوم آثم بِأَكْل أَمْوَال النَّاس بِالْبَاطِلِ، ثمَّ قَالَ تَعَالَى، وتقدس، مادحا للْمُؤْمِنين برَبهمْ المطيعين أمره المؤدين شكره الْمُحْسِنِينَ إِلَى خلقه فِي إِقَامَة الصَّلَاة وإيتاء الزَّكَاة، مخبرا عَمَّا أعدلهم من الْكَرَامَة وَأَنَّهُمْ يَوْم الْقِيَامَة آمنون من التَّبعَات فَقَالَ: { إِن الَّذين آمنُوا وَعمِلُوا الصَّالِحَات وَأَقَامُوا الصَّلَاة وَآتوا الزَّكَاة لَهُم أجرهم عِنْد رَبهم وَلَا خوف عَلَيْهِم وَلَا هم يَحْزَنُونَ} ( الْبَقَرَة: 77) .

قال تعالي 
(أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ( 104) سورة التوبة   معانى الكلمات
يأخذ الصّدقات : يقلبها و يثيب عليها

و {أَلَمْ يعلموا} مكونة من ثلاث كلمات هي: 
همزة استفهام، «لم»
 حرف نفي « و» 
يعلم «وهو فعل  » 
فهل يريد الله هنا ان ينفي عنهم العلم أم يقرر لهم العلم؟
 لقد جاء سبحانه بهمزة يسمونها» همزة الاستفهام الإنكاري «والإنكار نفي، فإذا دخل نفي على نفي فهو إثبات، أي» فليعلموا «. ولماذا لم يأت بالمسألة كأمر؟
نقول: إن الحق حين يعرضها معرض الاستفهام فهو واثق من أن المجيب لا يجيب إلا بهذا
 وبدلاً من أن يكون الأمر إخباراً من الله، يكون إقراراً من السامع. 
{أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة}
لماذا جاء الحق بكلمة {هُوَ} ، وكان يستطيع سبحانه أن يقول:» ألم يعلموا أن الله يقبل التوبة «ولن يختل الأسلوب؟ أقول: لقد شاء الحق أن يأتي بضمير الفصل، مثلما نقول: فلان يستطيع أن يفعل لك كذا.
 وهذا القول لا يمنع أن غيره يستطيع إنجاز نفس العمل
 لكن حين تقول: فلان هو الذي يستطيع أن ينجز لك كذا. فهذا يعني أنه لا يوجد غيره. 

وهذا هو ضمير الفصل الذي يعني الاختصاص والقصر ويمنع المشاركة. 
لذلك قال الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة ... } [التوبة: 104] 
وهل كانت هناك مظنة أن أحداً غير الله يقبل التوبة؟
 لا. 
بل الكل يعلم أننا نتوب إلى الله، ولا نتوب إلى رسول الله. ونحن إذا استعرضنا أساليب القرآن، وجدنا أن ضمير الفصل أو ضمير الاختصاص هو الذي يمنع المشاركة فيما بعدها لغيرها؛ 
وهو واضح في قصة سيدنا إبراهيم حين قال: {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} [الشعراء: 70 - 77] 
ولم يقل سيدنا إبراهيم:» إنهم أعداء «، بل جمعهم كلهم في عصبة واحدة وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي}
و {إِنَّهُمْ} - كما نعلم - جماعة، ثم يقول بعدها {عَدُوٌّ} وهو مفرد، فجمعهم سيدنا إبراهيم وكأنهم شيءٌ واحد.
 وكان بعضٌ من قوم إبراهيم يعبدون إلهاً منفرداً، وجماعة أخرى يعبدون الأصنام 
ويقولون: إنهم شركاء للإله. 
إذن: كانت ألوان العبادة في قوم إبراهيم عليه السلام تتمثل في نوعين اثنين.
 ولما كان هناك من يعبدون الله ومعه شركاء، فقول إبراهيم قد يُفسر على أن الله داخل في العداوة؛ لذلك استثنى سيدنا إبراهيمُ وقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} ،
 أي: أن الله سبحانه ليس عَدُوّا لإبراهيم عليه السلام، وإنما العداوة مقصورة على الأصنام.

 أما إن كان قومه يعبدون آلهة دون الله، أي: لا يعبدون الله، لم يكن إبراهيم ليستثنى. 
والاستثناء هنا دليل على أن بعضاً من قومه هم الذين قالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى ... } [الزمر: 3]
وهكذا تبرأ سيدنا إبراهيم عليه السلام من الشركاء فقال: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين} 
وهذا كلام دقيق محسوب. وأضاف: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ولم يقل: «الذي خلقتني يهديني» ، بل ترك «خلقني» بدون «هو» وخَصَّ الله سبحانه وحده بالهداية حين قال: {فَهُوَ يَهْدِينِ} ؛ لأن «هو» لا تأتي إلا عند مظنة أنك ترى شريكاً له، أما مسألة الخلق فلا أحدٌ يدّعي أنه خلق أحداً. فالخلق لا يُدَّعى، ولذلك لم يقل «الذي هو خلقني» . 
والحق سبحانه هو القائل: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله ... } [الزخرف: 87] فليس هناك خالق إلا هو سبحانه. إذن: فالأمر الذي لا يقول به أحد غير الله لا يأتي فيه الضمير. 
لكن الأمر الذي يأتي فيه واحد مع الله، فهو يخصِّص ب «هو» تأكيداً على تخصيصه لله وحده {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} 
فليس لأحد أن يُدخل أنفه في هذه المسألة؛ لأن أحداً لم يدّع أنه خلق أحداً، فمجيء الاختصاص - إذن - كان في مجال الهداية بمنهج الحق، لا بقوانين من الخلق.

 فمن الممكن أن يقول بشر: أنا أضع القوانين التي تسعد البشر، وتنفع المجتمع، وتقضي على آفاته
 ونقول: لا، إن الذي خلقنا هو وحده سبحانه الذي يهدينا بقوانينه.
 إذن: فما لا يُدَّعى فلا تأتي فيه (هو) ، أما ما يمكن أن يُدَّعى فتأتي فيه (هو) .
 وقوله سبحانه: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] وجاء هنا أيضاً بضمير الفصل؛ لأن الإنسان قد يرى والده وهو يأتي له بالطعام والشراب فيظن أن الأب شريك لله؛ لذلك جاء ب {هُوَ} ، فأنت إن نسبت كل رزق يأتي به أبوك، لانتهيت إلى مالم يأتي به الأب؛ لأن كل شيء فيه سببٌ للبشر ينتهي مإلى ماليس للبشر فيه أسباب، فكل شيء من الله؛ لذلك قال سيدنا إبراهيم: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 79 - 80] 
وخصص الشفاء أيضاً؛ حتى لا يظن ظان أن الطبيب هو الذي يشفي، وينسى أن الله وحده هو الشافي
 أما الطبيب فهو معالج فقط؛ ولذلك تجد أننا قد نأخذ إنساناً لطبيب، فيموت بين يدي الطبيب
ولذلك يقول الشاعر عن الموت: 
إنْ نَام عنْكَ فَأيُّ طِبٍّ نَافِعٌ ... أوْ لم يَنَمْ فالطِّبَّ مِن أذنَابِه فقد يعطي الطبيب دواءً للمريض، فيموت بسببه هذا المريض. 
وجاء سيدنا إبراهيم بالقصر في الشفاء لله؛ حتى لا يظن أحد أن الشفاء في يد أخرى غير يد الله سبحانه.
 ثم يقول سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ... } [الشعراء: 81] 
ولم يقل: «هو» يميتني؛ لأن الموت مسألة تخص الحق وحده
 وقد يقول قائل: كان يجب أن يقول: «هو يمتني» 
 ونقول: انتبه إلى أن الموت هنا بنقض البنية، ويضيف الحق على لسان سيدنا إبراهيم: {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81]
وأيضاً لم يقل: «هو يحييني» ؛ لأن هذا أمر خارج عن أي توهم للشركة فيه
 فقد جاء ب «هو» في الأمور التي قد يُظن فيها الشركة، وهو كلام بالميزان: 
{والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] لم يأت أيضاً ب «هو» ؛ لأن المغفرة لا يملكها إلا الله. إذن فكل أمر معلوم أنه لا يشارَك فيه جاء بدون «هو» 
 وكل ما يمكن أن يُدَّعى أن فيه شركة يجيء ب «هو» . وهنا يقول الحق: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} وظاهر الأمر أن يقال: ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة «من» عبادة، ولكنه ترك «من» وجاء ب «عن» . والبعض يقولون: إن الحروف تنوب عن بعضها، فتأتي «من» بدلاً من «عن» . ونقول: لا، إنه كلام الحق سبحانه وتعالى ولا حرف فيه يغني عن حرف آخر؛ لأن معنى التوبة، أن ذنباً قد حدث، واستوجب المذنب العقوبة
فإذا قَبل الله التوبة، فقد تجاوز الله عن العقوبة؛ ولذلك جاء القول من الحق محدداً: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة} أي: متجاوزاً بقبول التوبة عن العقوبة.
 وهكذا جاءت «عن» بمعناها؛ لأنه سبحانه هو الذي قَبِل التوبة، وهو الذي تجاوز عن العقوبة.
 ثم يقول سبحانه: {وَيَأْخُذُ الصدقات} صحيح أن الله هو الذي قال للرسول: {خُذْ} ولكن الرسول هو مناول ليد الله فقط
 و «يأخذ» هنا معناها «يتقبل» 
واقرأ قول الحق: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ ... } [الذاريات: 15 - 16]
أي: متلقين ما آتاهم الله.
 ومثال ذلك ما يُروى عن السيدة فاطمة حينما دخلا عليها سيدنا رسول الله عليه وسلم فوجدها تجلو درهماً، والدرهم عملة من فضة.
 والفضة من المعادن التي لا تصدأ، والفضة على أصلها تكون لينة لذلك يخلطونها بمعدن آخر يكسبها شيئاً من الصلابة. والمعدن الذي يعطي الصلابة هو الذي يتأكسد؛ فتصدأ الفضة
 لذلك أخذت سيدتنا فاطمة تجلو الدرهم.
 فلما دخل عليها سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سألها: 
ما هذا؟ قالت: إنه درهم. 
واستفسر منها لماذا تجلو الدرهم؟
فقالت: كأني رأيت أن أتصدق به، وأعلم أن الصدقة قبل أن تقع في يد الفقير تقع في يد الله فأنا أحب أن تكون لامعة. فعلت سيدتنا فاطمة ذلك؛ لأنها تعلم أن الله وحده هو الذي يأخذ الصدقة.
 {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات وَأَنَّ الله هُوَ التواب الرحيم}


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق