الثلاثاء، 28 أبريل 2020

العداوة بين الانسان والشيطان


إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)

سورة فاطر
قال تعالي ( قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى)
سورة طه الاية رقم ١٢٣
أي: اهبطا من الجنة  إلى الأرض ، وامضوا فيها على ضوء التجربة الماضية،  ولتعلموا أنكم لبعض عدو ، لا توجد بينكما مصالح مشتركة، العلاقة بينكما هي  علاقة عداءٍ أبدية ،
واعلما أن علي الأرض ، أمراً ونهياً وعدواً يوسوس ويُزيِّن ويُغوِي حتي يحقق وعده لله 
قال تعالي (ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17))سورة الاعراف
وقال تعالي (قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَٰذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)) سورة الاسراء
 أقسم عدوّ الله، فقال لربه: لئن أخرت إهلاكي إلى يوم القيامة ( لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلا قَلِيلا )يقول: لأستولين عليهم، ولأستأصلنهم، ولأستميلنهم يقال منه: احتنك فلان ما عند فلان من مال أو علم أو غير ذلك

، وكأن الله عَزَّ وَجَلَّ يعطي آدم المناعة الكافية له ولذريته من بعده لتستقيم لهم حركة الحياة في ظل التكاليف 
والتكاليف إما أمر وإما نهي، والشيطان هو الذي يفسد علينا هذه التكاليف.
قال تعالي (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ ۚ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَٰكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)) سورة النور
وأنزل الله المنهج علي بني أدم بالأوامر والنواهي  وأنزل لكل أمة منهج هدايه لهم ودستورا يهتدون به، وقانونا منظما لتكليفاتهم ومحذرهم من الشيطان والنفس .
قال تعالي (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (168)) سورة البقرة
والشيطان طرفا في المعركة الأزلية ، ومع ذلك لا ننسى طَرَفاً آخر هو النفس الأمَّارة التي تحرك الإنسان  نحو المعصية والمخالفة. 
إذن: ليس عدونا الشيطان فحسب فنجعله شماعة نعلّق عليها كل معاصينا، فهناك مَعَاصٍ لا يدخل علينا الشيطان بها إلا عن طريق النفس، وإلا إبليس لما غوى؟ مَنْ أغواه؟ ومَنْ وسوس له؟ 
 وقوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة: 36]
أي: بعض عدو للبعض الآخر، وكلمة (بعض) لها دَوْر كبير في القرآن 
والمراد: الإنسان عدو الشيطان ____ إنْ كان طائعاً لله ملتزم بالمنهج .
والشيطان عدوالإنسان إنْ كان طائعاً لله . 
فإنْ كان الإنسان  عاصياً فلا عداوةإذن بينهما؛ لأن الشيطان الانسان عاصياً. 
والإنسان والشيطان عداوة مستمرة ولا تصالح بينهما في سبيل الهدايه ولا توافق بينهما ألا في الغواية ، ولا مصالح مشتركة 
إذن من هم علي الطريق المستقيم لا مصالح بينهم ولا مصالح مشتركة .
واليكم المثال التالي 
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:   إِذَا دَخَلَ الرَّجُلُ بَيْتَهُ، فَذَكَرَ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ وَعِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: لَا مَبِيتَ لَكُمْ، وَلَا عَشَاءَ، وَإِذَا دَخَلَ، فَلَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ دُخُولِهِ، قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ، وَإِذَا لَمْ يَذْكُرِ اللهَ عِنْدَ طَعَامِهِ، قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ   رواه مسلم (2018).

وهذا الحديث صريح في أن المسلم إذا دخل بيته من غير ذكر الله تعالى، دخل معه الشيطان، والظاهر أنه يدخل مع أتباع له، كما تشير جملة:  قَالَ الشَّيْطَانُ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ .
قال النووي رحمه الله تعالى:
" قوله: ( قَالَ: أَدْرَكْتُمُ الْمَبِيتَ وَالْعَشَاءَ ) معناه قال الشيطان لإخوانه وأعوانه ورفقته " انتهى من "شرح صحيح مسلم" (13 / 190).
وروى أصحاب السنن عن عائشة("إذا أكل أحدُكُم فليذكُرِ اسمَ الله، فإن نَسِيَ أن يَذكُرَ اسمَ الله في أوَّلِه فليقُلْ: باسم الله أوَّلَهُ وآخِرَهُ")) قال الترمذي حسن صحيح
عن أميةَ بن مَخشيٍّ - وكان مِن أصحابِ رسولِ الله - صلَّى الله عليه وسلم - قال: كان رسولُ الله - صلَّى الله عليه وسلم - جالساً ورجلٌ يأكُلُ، فلم يُسَمِّ حتَّى لم يَبْقَ من طعامِهِ إلا لُقمةٌ، فلما رفعَها إلى فيه قال: باسم الله أولَه وآخرَه، فضحك النبيُّ -صلَّى الله عليه وسلم- ثم قال: ما زالَ الشيطانُ يأكلُ معَه، فلما ذَكرَ اسمَ الله استقاءَ ما في بَطنِهِ" .هذا الحديث رواه أبو داود والنسائي وأحمد والطحاوي وصححه الحاكم 




لكن ما دام بعضكم لبعض عدواً أي: آدم مطمور فيه ذريته، وإبليس مطمور فيه ذريته، فَمنْ سيكون. الحَكَم؟ 
الحَكَم بينهما منهج الله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [طه: 123] فإياكم أنْ تجعلوا الهدى من عندكم؛ لأن الهدى إنْ كان من الانسان ،قاصر العلم والقدرة  فلن ينفع ولن يفلح ولكن اتباع هدي الله نتيجتة الإستقامة والفلاح . 
قال تعالي {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123] فكأن هدى الله ومنهجه هو (كتالوج) سلامة الإنسان وقانون صيانته  ليحمي الله صنعته . 
ألاَ نرى الصناع من البشر حين يرفقون بصنعتهم (كتالوجاً) يضم تعليماتهم عن تشغيلها وصيانتها، فإن اتبعنا هذه التعليمات خدمتْنا هذه الآلآت وأدَّتْ لنا مهمتها دون تعطّل. 
 الخالق عَزَّ وَجَلَّ  يضع لخَلْقه قانونهم وهَدْيَهم 
فإنْ وضعه آخر فهذا افتئات على الله عَزَّ وَجَلَّ، وكما لو ذهبتَ إلى الجزار تقول له: ضَعْ لي التعليمات اللازمة لصيانة (الميكروفون) !!
 إذن: الفساد في الكون يحدث حينما نخرج عن منهج الله، ونعتدى على قانونه وتشريعه، ونرتضي بهَدْي غير هَدْيه؛ لذلك يقول تعالى بعدها: {فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى} [طه: 123]  هذه نتيجة مَنِ اتبع هدى الله والعكس في البعد عن هدي الله فيه شقاء في الدنيا والأخرة 
اذن لامصالح بين الإنسان والشيطان الا في طريق الشر
قال تعالي في سورة الإسراء
(إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ۖ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27))
 وإذا كان طريق الشيطان والإنسان واحد ، وتوائمت مصالهم، بعد الإنسان عن الهدي واستحق من الله العقاب .
قال تعالي (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) سورة طه 
معيشة ضنكا : ضيّقة شديدة 

والإعراض: هو الانصراف عما أنزله الله من المنهج ، البعد عن التكليفات ، البعد عن الأوامر والنواهي وتجاهلها والإعراض عنها ، وباللغة الدراجه أن نتجاهل التكليف وأن نعطيه عَرْض أكتافنا  وقوله تعالي : {مَعِيشَةً ضَنكاً}[طه: 124] الضنْك هو الضيق الشديد الذي نحاول أنْ نفلتَ منه هنا أو هناك فلا نستطيع، والمعيشة الضَّنْك هذه تأتي لمَنْ أعرض عن الله، لأن مَنْ آمن بإله إنْ عَزَّتْ عليه الأسباب لا تضيق به الحياة أبداً؛ لأنه يعلم أن له ربّاً يُخرِجه مما هو فيه  وإن تعسرت فإنه يعلم أن هناك وعد من الله بأن بعد العسر يسر قال تعالي في سورة الشرح (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5)) .
إذن المعرضون توعدهم الله بالضيق والخوف والحزن وضمن عكس ذلك لمن يتبعون المنهج .
قال تعالي (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا ۖ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38)) سورة البقرة 
المؤمن المتبع للمنهج ، في أمانٍ من الخوف والحزن لأن معه منهج مستقيم يطمئنه علي كل أحواله،
و أما غير المؤمن فحينما تضيق به الأسباب وتُعجِزه لا يجد مَنْ يلجأ إليه  فيقنت ويعيش في حزن أو يعتقد أن الراحه في إنهاء حياته فينتحر. 
المؤمن يقول: لي ربٌّ يرزقني ويُفرِّج كَرْبي، كما يقول عَزَّ وَجَلَّ: {الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] 
لذلك  المؤمنون يقولون: لا كَرْب وأنت رَبٌّ
 وإذا كان الولد لا يحمل هَمّاً في وجود أبيه فله أبٌ يكفيه متاعب الحياة ومشاقها، فلا يدري بأزمات ولا غلاء أسعار، ولا يحمل هَمَّ شيء
وصاحب السلطه يكفي ذويه 
فما بالُكَم بمَنْ له رَبٌّ؟ 
وهو ملك الملوك ، يملك خزائن كل شئٍ ، وبيده كلَ شئٍ ولا يعجزه شيئاً
وسبق أنْ ضرب الشيخ الشعراوي  مثلاً ولله المثل الأعلى،  للتوضيح ببساطة. 
قال رحمه الله : هَبْ أن معك جنيهاً ثم سقط من جيبك، أو ضاع منك فسوف تحزن عليه إنْ لم يكُنْ معك غيره،
 فإنْ كان معك غيره فلن تحزن عليه، 
فإن كان لديك حساب في البنك فكأن شيئاً لم يحدث.
 وهكذا المؤمن لديه في إيمانه بربه الرصيد الأعلى الذي يُعوِّضه عن كل شيء.
 والحق تبارك وتعالى أعطانا مثالاً لهذا الرصيد الإيماني في قصة موسى عليه السلام مع فرعون، حينما حُوصِر موسى وقومه بين البحر من أمامهم وفرعونَ بجنودهِ من خلفهم، وأيقن القومُ أنهم مُدْركون
 ماذا قال نبي الله موسى؟ قال: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] ، يالله ، ما هذا اليقين الذي عليه نبي الله موسي ، كل هذه الأخطار ، وهذه الثقة .
 فهكذا بملْء فيه يقُولُهَا قَوْلةَ الواثقِ ، مع أنها قَوْلة يمكن أن تكذب بعد لحظات، لكنه الإيمان الذي تطمئن به القلوب، والرصيد الذي يثِقُ فيه كُلُّ مؤمن. 
إذن: مَنْ آمن بالله واتبع هُدَاه فلن يكون أبداً في ضَنْكٍ أو شِدَّة، فإنْ نزلت به شِدَّة فلن تُخرِج عَزْمَهُ عن الرضى، واللجوء إلى ربه. لأن الله فصل في الكتاب ،في المنهج ، كل شئ ،والمؤمن علي يقين برسائل ومنهجه ووعده 
فحينما يبتلي ،يجد في وعد ربه عن الصبر ما يريح صدره ، 
قال تعالي(وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)) سورة البقرة  ،يعرف الحق سبحانه وتعالي أن هناك بعض الإبتلاءات في النعم ، ثم يبشر الصابرين، فيذهب الصابر إلي البشري ويضعف مع  الشعور الإبتلاء 
وأما المعرض عن الأيات وغير المؤمن يعيش الإبتلاء ،فيضيق صدره ويزداد المه ،فمن آيات الإعجاز القرآني في مسألة الضيق، قوله تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء} [الأنعام: 125] .
 فمن أين عرف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن مَنْ يصعِّد في السماء يضيق صدره؟
 وهل صَعَد أحد إلى السماء في هذا الوقت وجَرَّب هذه المسألة؟ 
ومعنى ضيق الصدر أن حيِّز الرئة التي هي آلة التنفس يضيق بمرض التهابي يعوق وظيفتها  أو مجهود زائد أو غيره،
 ألاَ تروا أننا لو صعدنا سُلَّماً مرتفعاً ننهج، معنى ذلك أن الرئة وهي خزينة الهواء لا تجد الهواء الكافي الذي يتناسب والحركة المبذولة، وعندها تزداد حركة التنفس لتُعوِّض نَقْص الهواء. والآن وبعد غزو الفضاء عرفنا مسألة ضيق التنفّس في طبقات الجو العليا مما يضطرهم إلى أخذ أنابيب الأكسجين وغيرها من آلات التنفس وحتي في السكان الذين يقطنون من المرتفعات من الجبال والتي ترتفع عن سطح البحر بمئات الكيلوات ،ينقص الأكسجين .
وختاما لا مصالح ولا تصالح مع الشياطين 
وعداوهٌ دائمة إلي يومِ الدينِ 
وإطمئنان بإذن الله الرحمن الرحيم
 ونسأل الله الهداية ، ونستعيذ بهِ من الشيطان الرجيم
فالإستعاذة، تكفينا منه وتحمينا 
فليس له علينا سلطانُ له علينا بالأثام يوغوينا
وفي الخطايا ،يوقعنا ويردينا
وعن الهدي يورينا ، 
الا من اراد الضلال 
  فقد قال سبحانه وتعالي (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) سورة الحجر  
فالهم اجعلنا من  عبادك الصالحين ،الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، ولا تحرمنا ،خواطر الفجر 

الاثنين، 27 أبريل 2020

السمع والبصر دهليز القلب


قال تعالي (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)) سورة الاسراء
معانى الكلمات
لا تقْف : لا تتبع 
 الحق سبحانه وتعالى هنا يتكلم في  قضية  تُنظِّم حركة الحياة والإنسان الذي استخلفه الله في الأرض ووهَبه الحياة وأمدَّه بالطاقات وبمُقَوِّمَات الحياة وضرورياتها.

 وبعد أنْ تكفّل له بالضروريات، دَلّه على الترقِّي في الحياة بالبحث والفكر، واستخدام العقل المخلوق لله، والمادة المخلوقة لله بالطاقات المخلوقة لله، فيُرقِّي ويُثري حياته ومجتمعه. 

وحركة الترقِّي والإثراء هذه لا تتمّ إلا على قضية ثابتة واضحة، فإذا تحركتَ في الحياة بناءً على هذه القضية فسوف تصل إلى النتيجة المرجوّة. 

إذن: لا بُدَّ أن تُبْنَى حركة الحياة على قضايا ثابتة، هذه القضايا الثابتة تجعل المتحرِّك في أيِّ حركة واثقاً من أن حركته ستُؤدِّي إلى النتيجة المطلوبة، فلو أردتَ مثلاً الذهاب إلى القاهرة أو إلى أسوان، فلن تتحرّك إلا إذا تأكدتَ أن هذا الطريق هو الموصِّل إلى غايتك
 وكذلك حركة الحياة لا يمكن أنْ تتمَّ إلا بناءً على قضايا حقيقية مضبوطة في الكون، وهذا ما نسميه (العلم) 
إذن العلم هو القضايا الحقيقية المضبوطة في الكون
 الجهل إذا كنت جازما بالشيء وهو ليس له وجود في الواقع


وقبل أن نبدا يجب ان نفرق بين بعض المعاني 
قال الخليل بن أحمد  الفراهيدي : 
الرجال أربعةمنهم
@ العالم    
رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه

@ الجاهل 
رجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه.
وقضيتنا هنا في ثلاثة معاني
العالم والجاهل والأمي 
الفرق بين الجاهل والأمي؟
 الجاهل شر من الأمي ٬ لأن الجاهل مؤمن بقضية لا واقع لها ويدافع عنها 
 أما الأمي فهو لا يعلم ٬ ومتى علم فإنه يؤمن 
والعمل مع الجاهل اشق من الأمي ، ولذلك لابد بالنسبة للجاهل أن تخرج الباطل من قلبه أولا ليدخل الحق. 

وقضايا الحياة يمكن أنْ تُقسِّم إلى قسمين:
@ قضايا تختلف فيها الأهواء. 
@ وقضايا تتفق فيها الأهواء.
 فالقضايا التي تختلف فيها الأهواء: هي القضية التي يخدم بها كل قائل لها فكرةً عنده فقط، وإنْ كانت ضارة بغيره، فما دام الأمر قائماً على الأهواء فلا بُدَّ أنْ تختلفَ، فكُلٌّ له هواه الخاص، فلو أن لكل واحد قضية ما التقينا على شيء أبداً.
 وصدق الحق تبارك وتعالى حين قال: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض. .} [المؤمنون: 71] 

إذن: فما المخرج من هذا الاختلاف والتبايُن؟
 المخْرَج أن يَخرج كل واحد مِنَّا من هوى نفسه أولاً، ثم نرد القضية التي اختلفتْ فيها أهواؤنا إلى مَنْ لا هوى له. 

وربُّكَ سبحانه وتعالى هو وحده الذي لا هَوى له، ونحن جميعاً خَلْقه، وكلنا عنده سواء
 ليس منا مَنْ بينه وبين الله نسب أو قرابة، فشرع الله واحد للجميع، ولا غضاضة فالكل خاضع لهذا الشرع مُتّبِع له؛ لأنه شَرْع الخالق سبحانه لا شَرْع أحد من الناس.
 لذلك اشتهر قولهم: «اللي الشرع يقطع صباعه مَيْخُرش دم» . فأنا لم أخضع لك، وأنت لم تخضع لي، بل الجميع خاضع لله تعالى مُنصَاع لأمره.

 إذن: اتركوا قضايا الأهواء لله تعالى يُشرّعها لكم لكي ترتاحوا من تسلُّط بعضكم على بعض. 

أما القضايا التي تتفق فيها الأهواء فهي القضايا المادية القائمة على المادة الصمَّاء التي لا تُجامِل أحداً على حساب أحد، ولا مانعَ أن تتبعوا الآخرين فيها؛ لأنكم سوف تلتقون عليها قَهْراً ورَغْماً عنكم

 فالمعمل الذي تدخله لتجري التجارب التي توصلك لقضية ما مادية أو كيماوية معمل محايد لا يجامل أحداً.

 وقد سبق أن قلنا: إن الكهرباء أو الكيمياء ليس فيها روسي وأمريكي؛ لأن هذه أشياء مادية لا خلافَ عليها،

 أما الذي جعل المعسكر الشرقي يختلف والمعسكر الغربي هي القضايا الأهوائية، فهذا شيوعي، وهذا رأسمالي.

 لذلك، فالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضع بنفسه هذا المبدأ في الوجود الإيماني حينما رأى الناس يُؤبّرون النخل، فأشار عليهم بعدم تأبيره، فأطاعوه ولم يؤبروا النخل في هذا العام، وكانت النتيجة أن شاص النخل ولم يثمر، وأثبتتْ التجربة الطبيعية أن ما أشار به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس صواباً.
 يأتي هذا مِمَّنْ؟ من محمد بن عبد الله نبي الله ورسوله، الذي يحرص على أن تأتي كل قضاياه صادقة صائبة، وما كان منه إلا أن قال: «أنتم أعلم بشئون دنياكم» .

 ليضع بذلك أُسْوة لعلماء الدين ألاَّ يضعوا أنوفهم في قضايا الماديات، وقد قال الحق تبارك وتعالى: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [البقرة: 60] 

ويقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يؤمن أحدُكم حتى يكونُ هواهُ تبعاً لما جئت به»
فإنْ أردتَ أنْ تتحرَّك في الحياة حركة سليمة مجدية، وحركة متساندة مع إخوانك غير متناقضة؛ فالحق سبحانه يقول: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. .} [الإسراء: 36] لكي تسير في حركة الحياة على هُدىً وبصيرة. 

{لاَ تَقْفُ} أي: لا تتبع ولا تتدخل فيما لا عِلْم لك به، كمَنْ يدَّعي مثلاً العلم بإصلاح التليفزيون وهو لا يعلم، فربما أفسد أكثر مما يُصلح.

 ومن هنا قال أهل الفقه: مَنْ قال لا أدري فقد أفتى

 لأنه بإعلان عدم معرفته صرف السائل إلى مَنْ يعلم، أما لو أجاب خطأ، فسوف يترتّب على إجابته مَا لا تُحمد عُقْباه، والذي يسلك هذا المسلك في حياته تكون حركته في الحياة حركة فاشلة. 

والفعل (يَقفْو) مأخوذ من القفا وهو المؤخرة، وقد قال تعالى في آية أخرى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا} [الحديد: 27] أي: أتبعناهم.
 ويقفو أثره أي: يسير خَلْفه.

 وحينما نصح أحدهم رجلاً يريد أنْ يتزوج قال له: لا تتخذها حنَّانة، ولا منَّانة، ولا عُشْبة الدار، ولا كبة القفا.

 فالحنانة التي لها ولد من غيرك يذكرها دائماً بأبيه فتحِنّ إليه

 والمنّانة التي لديها مال تَمنُّ به عليك

 وعُشْبة الدار هي المرأة الحسناء في المنبَتِ السوء والمستنقع القذر

 وكبَّة القفا هي التي لا تعيب الإنسان في حضوره، وتعيبه وتذمه في غيبته.

 والعلم هنا يُراد به العلم المطلق؛ لأن الكثير من الناس كان يعتقد أن العلم يعني العلم الديني فقط

 لكن العلم هو كل ما يُثري حركة الحياة

 والعلم علمان:
@ علم ديني، وهو الذي يقضي على الأهواء، ويُوحِّدهَا إلى هوىً واحد هو الهَوى الإيماني. 
وهذا العلم يتولاّه الخالق سبحانه، وليس لنا دَخْل فيه؛ لأن الصانع أَدْرى بصنعته، وهو الذي يضع لها قانون صيانتها؛ لأنه يعلم مَا يصلحها ومَا يفسدها.
 وكما أنك لا تذهب إلى الجزار ليضع لك  قانون ييقيم حياتك
فان قانون صيانة الإنسان  لا يكون إلا من خالقه عَزَّ وَجَلَّ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير} [الملك: 14] 
وهذا النوع من العلم قال الله تعالى عنه: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا. .} [الحشر: 7]

فليس لنا أنْ نتدخَّلَ فيه، أو نزيد عليه؛ لأنه منهج الله الذي جاء ب «افعل ولا تفعل» ،
 وهو منهج لا يقبل الزيادة أو التعديل، فما كان فيه أمر ونهي فعليك الالتزام به، وإلا لو خرجت عن هذا الإطار الذي رسمه لك ربك وخالقك 
ونتيجة ترك منهج الله 
سوف تحدث في الكون فساداً بترك الأمر أو بإتيان النهي.

 أما الأمور التي تركها الخالق سبحانه ولم يرد في شأنها أمر أو نهي فأنت حر فيها، تفعل أو لا تفعل.

 والمتأمل في شرع الخالق سبحانه يجد أمور التكليف بافعل ولا تفعل قليلة إذا ما قيست بالأمور التي ترك لك الحرية فيها

 إذن: فلندع لربنا وخالقنا والأعلم بنا مجالاً يحكم من خلاله حياتنا وينظمها لنا
ألا يجد بنا ونحن عباده وصنعته أن نُحكّمه في أمور ديننا، ونُخرِج أنوفنا مما اختص به سبحانه؟ 

فما النوع  الآخر من العلم،
هو العلم المادي التجريبي 
الذي لا يخضع للأهواء، فقد جعله الخالق سبحانه مجالاً للبحث والتسابق، ومضماراً يجري فيه الجميع؛ لأنهم في النهاية سيلتقون فيه قَهْراً ورَغْماً عنهم.

 وقد أعطانا الحق سبحانه وتعالى مثالاً لهذا النوع من العلم، فقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ. .} [فاطر: 27 - 28] 
فذكر الحق سبحانه أجناس الوجود كلها:
 الإنسان، والحيوان، والنبات، والجماد. 
ثم ختم ذلك بقوله: {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء. .} [فاطر: 28] 

فهذه ظواهر الكون
 ارْبَع فيها كما شئت بحثاً ودراسة، وإنْ أحسنتَ الإمعان فيها فسوف تُوصِّلك إلى ظواهر أخرى تُثري حياتك وتُرقّيها، فالذي اكتشف عصر البخار، والذي اكتشف العجلة والكهرباء والجاذبية وغيرها لم يخلق جديداً في كَوْن الله

 إنما أحسن النظر والتأمّل فتوصّل إلى ما يُريح المجتمع ويُسعده. 

لذلك، فالحق سبحانه وتعالى يُحذّرنا أن نمرَّ على ظواهر الكون في إعراض وغفلة ودون تمعُّن فيها:
 {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] 

والذين عبَّروا عن هذه الإنجازات العلمية بكلمة (الاكتشافات) كانوا أمناء في التعبير عن الواقع الفعلي، فهم لم يخلقوا جديداً في الكون، فكلُّ هذه الأشياء موجودة، والفضل لهم في الاهتداء إليها واكتشافها
ومن هنا فكلمة (اختراع) ليست دقيقةً في التعبير عن هذه الاكتشافات. 
فإذا كان الحق سبحانه نهانا عن تتبُّع ما ليس لنا به علم، فماذا نتبع؟ 
نتبع ما نعلمه وما نتيقن منه من علوم
 فإنْ كانت في الدين تركناها للخالق سبحانه يُقنّنها لن
وإنْ كانت في أمور الدنيا أعملنا فيها عقولنا بما ينفعنا ويُثرِي حياتنا
لذلك تكلّم الحق سبحانه بعد ذلك عن وسائل إدراك العلم، فقال: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] 
وما دام الحق سبحانه قد نهانا عن تتبع مَا لا نعلم، وأمرنا أن نسير على ضوء ما نعلم من العلم اليقيني فلا بُدّ أنْ يسأل المرءُ عن وسائل العلم هذه، لأنه لولا وسائل الإدراك هذه ما عَلم الإنسانُ شيئاً
 وهذا واضح في قول الحق تبارك وتعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] 
وهل يشكر الإنسان إلا على حصيلة أخذها؟
 هذه الحصيلة هي العلم.
 وهذه الحواس تُؤدِّي عملها في الإنسان بمجرد أنْ تنشأ فيه، وبعد أنْ يخرجَ إلى الحياة، والبعض يظنّ أن الطفل الصغير لا يفهم إلا عندما يكبر ويستطيع الكلام والتفاهم مع الآخرين، والحقيقة أن الطفل يدرك ويعي من الأيام الأولى لولادته. 

ولذلك، فإن علماء وظائف الأعضاء يقولون: إن الطفل يُولَد ولديْه ملكَاتٌ إدراكية سمّاها العلماء احتياطاً «الحواس الخمس الظاهرة» 

 وقد كان احتياطهم في محله لأنهم اكتشفوا بعد ذلك حواس أخرى، مثل حاسة العضل مثلاً التي نُميِّز بها بين الخفيف والثقيل.

 وإنْ كانت حواس الإنسان كثيرة فإن أهمها: السمع والبصر، وقد وردت في القرآن بهذا الترتيب

 السمع أولاً، ثم البصر لأن السمع يسبق البصر

 فالإنسان بمجرد أنْ يُولَد تعمل عنده حاسّة السمع أما البصر فإنه يتخلّف عن السمع لعدة أيام من الولاد
، إذن: فهو أسبق في أداء مهمته، هذه واحدة.
 الأخرى: أن السمع هو الحاسَّة الوحيدة التي تُؤدّي مهمتها حتى حال النوم
 وفي هذا حكمة بالغة للخالق سبحانه، فبالسمع يتم الاستدعاء من النوم.( يا فلان استيقظ) فيسمع ويقطع نومه

 وقد أعطانا الخالق سبحانه صورة واضحة لهذه المسألة في قصة أهل الكهف، فلما أراد سبحانه أن يناموا هذه السنين الطوال ضرب على آذانهم وعطّل حاسة السمع لديهم، وإلاّ لَمَا تمكَّنوا من النوم الطويل، ولأزعجتهم الأصوات من خارج الكهف. 
فقال تعالى: {فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً} [الكهف: 11]
ولم يسبق البصر السمع إلا في آية واحدة في كتاب الله تعالى وهي: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا. .} [السجدة: 12] والحديث هنا ليس عن الدنيا، بل عن الآخرة، حيث يفزع الناس من هَوْلها فيقولون: {رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً. .} [السجدة: 12] لأنهم في الآخرة أبصروا قبل أن يسمعوا   وقوانين الأخرة مختلفه عن قوانين الدنيا.

 فالسمع أوّل الحواس، وهو أهمها في إدراك المعلومات
 حتى الذي يأخذ معلوماته بالقراءة سمع قبل أن يقرأ، فتعلّم أولاً بالسماع ألف باء
فالسمع أولاً في التعلُّم
 ثم يأتي دَوْر البصر  في القراءة .
 والذي يتتبع الآيات التي ورد فيها السمع والبصر سيجدها جاءت بإفراد السمع وجمع البصر، 
مثل قوله تعالي:{وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار. }[السجدة: 9] 

إلا في هذه الآية التي نحن بصدد الحديث عنها جاءت:
 {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] 
لماذا؟ وما الحكمة من إفرادها هنا بالذات؟ 
وقبل أن نُوضِّح الحكمة هنا يجب أن نعي أن المتكلم هو الله تعالى، وما دام المتكلم هو الله فلا بُدَّ أن تجد كل كلمة دقيقة في موضعها، بليغة في سياقها.

 فالسمع جاء بصيغة الإفراد؛ لأنه لا يتعدد فيه المسموع بالنسبة للسامع
فإذا حدث الآن صوت نسمعه جميعاً، فهو واحد في جميع الآذان.
 أما البصر 
فهو خلاف ذلك؛ لأن أمامنا الآن مرائيَ متعددة ومناظر مختلفة، فأنت ترى شيئاً، وأنا أرى شيئاً آخر
فَوحْدة السمع لا تنطبق على البصر
لذلك أفرد السمع وجاء البصر بصيغة الجمع. 

أما في قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر. .} [الإسراء: 36]
فقد ورد البصر هنا مفرداً؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يتحدث عن المسئولية
 مسئولية كل إنسان عن سَمْعه وبصره، والمسئولية أمام الحق سبحانه وتعالى فردية لا يُسأل أحد عن أحد، بل يُسأل عن نفسه فحَسْب، فناسب ذلك أنْ يقول: السمع والبصر
 لأنه سيُسأل عن بصر واحد وهو بصره.
 فالإنسان إذن مسئول عن سَمْعه وبصره وفؤاده من حيث التلقِّي 
تلقّي القضايا العلمية التي سنسير عليها في حركة حياتنا، وكذلك من حيث الإعطاء، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول للأذن: لا تسمعي إلا خيراً، ولا تتلقيْ إلا طيّباً
 ويا مُربِّي النشء لا تُسْمِعه إلا ما يدعو إلى فضيلة، ولا تعط لأذنه إلا ما يصلح حياته ويُثريها. 

ويقول للعين: لا ترَىْ إلا الحلال لا يهيج غرائزك إلى الشهوات، ويا مُربِّي النشء احجب عنه ما يثير الغرائز ويفسد الحياة؛ وبذلك نربي في المجتمع المعلومات الصحيحة التي تنبني عليها حركة حياته. 

وما دُمْتَ مسئولاً عن أعضائك هذه المسئولية، ومحاسباً عنها، فإياك أنْ تقولَ: سمعت وأنت لم تسمع
وإياك أنْ تقولَ: رأيت وأنت لم تَرَ
 إياك أنْ تتعرّض لشهادة تُدلي فيها بغير ما تعلم وتتيقن.
 أو تتبنّى قضية خاطئة وتبني عليها حركة حياتك؛ لأن المبنّي على مقدمات فاسدة ينتج عنه نتائج فاسدة

 وما بُنِي على مقدمات صحيحة أنتج النتيجة الصحيحة. وجماع هذا كله في قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. .} [الإسراء: 36] 
لماذا؟ 
لأنك محاسب على علمك هذا وعلى وسائل إدراكه لديك: 
{إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] 

المصدر ، خواطر الشيخ الشعراوي 
القرأن الكريم 

الحلقة الثالثة الكبد والصيام




الكبد في شهر رمضان
شهر رمضان هو الزمن اللي ربنا اصطفاة
لاقامة الدورة التدريبية السنوية
علي العملية الايمانية
والمستهدفين    المؤمنين
وهدف الدورة تعزيز المعاني الالهية من شعور العابد بالمعبود
ووصل الله بكل اعماله القلبية
والصيام عملية تربوية
لتهذيب النفس وتعزيز القيم الانسانية والاجتماعية
ودعم المعاني الصحية بالوقاية من الامراض وتعزيز الحاله المناعية
والوقاية من الامراض المزمنة القلبية  وكل الامراض الالتهابية
فالصيام  صيانه دورية  للخلل في الانسجة البدنية
والارتقاء بالحاله الروحانية

الأحد، 26 أبريل 2020

وقفات مع ايات الصيام في سورة البقرة






مقدمة: إن الحمد لله نحمده، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً مزيداً إلى يوم الدين، فقد إجتهدت لإعداد هذه الرسالة  عن الصيام  ولا يخلو عمل الإنسان من النقص، وهذا جهد بشري، فما كان فيه من صواب فمن الله وحده، وما كان فيه من زلل وخلل، فمني ومن الشيطان، واستغفر الله. 

هذا وأسأل الله أن يجعل هذا العمل خالصاً لوجهه، متقبلاً عنده، مقرِّباً إليه، نافعاً يوم العرض عليه، آمين

 أما بعد

قال تعالي  في سورة البقرة  (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ(183) 

أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

 شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
بدء الحق سبحانه وتعالىبالنداء علي المؤمنين

 قال تعالي ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)  سورة البقرة الاية رقم 183  
والحق سبحانه يبدأ هذه الآية الكريمة بترقيق الحكم الصادر بالتكليف القادم وهو الصيام فكأنه يقول:
 «يا من آمنتم بي وأحببتموني لقد كتبت عليكم الصيام» . وعندما يأتي الحكم ممن آمنت به فأنت تثق أنه يخصك بتكليف تأتي منه فائدة لك.

 واضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى هب أنك تُخاطب ابنك في أمر فيه مشقة، لكن نتائجه مفيدة،
 فأنت لا تقول له: «يا ابني افعل كذا»
 لكنك تقول له: «يا بُنَيَّ افعل كذا» وكأنك تقول له: «يا صغيري لا تأخذ العمل الذي أكلفك به بما فيه من مشقة بمقاييس عقلك غير الناضج، ولكن خذ هذا التكليف بمقاييس عقل وتجربة والدك» . 

والمؤمنون يأخذون خطاب الحق لهم {ياأيها الذين آمَنُواْ} بمقياس المحبة لكل ما يأتي منه سبحانه من تكليف حتى وإن كان فيه مشقة، والمؤمنون بقبولهم للإيمان إنما يكونون مع الحق في التعاقد الإيماني
 وهو سبحانه لم يكتب الصيام على من لا يؤمن به؛ لأنه لا يدخل في دائرة التعاقد الإيماني وسيلقي سعيرا.
 والصيام هو لون من الإمساك
 لأن معنى «صام» هو «أمسك» 
والحق يقول: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26]
 وهذا إمساك عن الكلام.

 إذن فالصوم معناه الإمساك
لكن الصوم التشريعي يعني الصوم عن شهوتي البطن والفرج من الفجر وحتى الغروب. 
هل مبدا الصوم مختلف عبر الازمان؟
ومبدأ الصوم لا يختلف من زمن إلى آخر
 فقد كان الصيام الركن التعبدي موجوداً في الديانات السابقة على الإسلام لكنه كان 
@إما إمساكاً مطلقاً عن الطعام.
@ وإما إمساكا عن ألوان معينة من الطعام كصيام النصارى، فالصيام 
إذن هو منهج لتربية الإنسان في الأديان، وإن اختلفت الأيام عدداً، وإن اختلفت كيفية الصوم ويذيل الحق الآية الكريمة بقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . 
ونعرف أن معنى التقوى هو أن نجعل بيننا وبين صفات الجلال وقاية، وأن نتقي بطش الله، ونتقي النار وهي من آثار صفات الجلال.
 وقوله الحق: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 
أي أن نهذب  سلوكنا فنبتعد عن المعاصي
 والمعاصي في النفس إنما تنشأ من شره ماديتها إلى أمر ما. والصيام كما نعلم يضعف شره المادية وحدتها وتسلطها في الجسد،
 ولذلك يقول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للشباب المراهق وغيره: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء» .
 وكأن الصوم يشذب شِرَّة المادية في الجسم الشاب. 
وإن تقليل الطعام يعني تقليل وقود المادة، فيقل السعار الذي يدفع الإنسان لارتكاب المعاصي.

 والصيام في رمضان يعطي الإنسان الاستقامة لمدة شهر، ويلحظ الإنسان حلاوة الاستقامة فيستمر بها بعد رمضان. 
والحق لا يطلب منك الاستقامة في رمضان فقط

 إنما هو سبحانه قد اصطفى رمضان كزمن تتدرب فيه على الاستقامة لتشيع من بعد ذلك في كل حياتك
لماذا اصطفي الله شهر رمضان
 لأن اصطفاء الله لزمان أو اصطفاء الله لمكان أو لإنسان ليس لتدليل الزمان، ولا لتدليل المكان، ولا لتدليل الإنسان، وإنما يريد الله من اصطفائه لرسول أن يشيع أثر اصطفاء الرسول في كل الناس. 

ولذلك نجد تاريخ الرسل مليئا بالمشقة والتعب، وهذا دليل على أن مشقة الرسالة يتحملها الرسول وتعبها يقع عليه هو. فالله لم يصطفه ليدلله، وإنما اصطفاه ليجعله أسوة.

 وكذلك يصطفي الله من الزمان أياما لا ليدللها على بقية الأزمنة، ولكن لأنه سبحانه وتعالى يريد أن يشيع اصطفاء هذا الزمان في كل الأزمنة، كاصطفائه لأيام رمضان

 والحق سبحانه وتعالى يصطفي الأمكنة ليشيع اصطفاؤها في كل الأمكنة.
 وعندما نسمع من يقول: «زرت مكة والمدينة وذقت حلاوة الشفافية والإشراق والتنوير، ونسيت كل شيء» . إن من يقول ذلك يظن أنه يمدح المكان، وينسى أن المكان يفرح عندما يشيع اصطفاؤه في بقية الأمكنة؛ فأنت إذا ذهبت إلى مكة لتزور البيت الحرام
 وإذا ذهبت إلى المدينة لتزور رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلماذا لا تتذكر في كل الأمكنة أن الله موجود في كل الوجود، وأن قيامك بأركان الإسلام وسلوك الإسلام هو تقرب من الله ومن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. 
صحيح إن تعبدك وأنت في جوار بيت الله، يتميز بالدقة وحسن النية. 

كأنك وأنت في جوار بيت الله وفي حضرة رسول الله تستحي أن تفعل معصية. وساعة تسمع «الله أكبر» تنهض للصلاة وتخشع، ولا تؤذي أحداً،

 إذن لماذا لا يشيع هذا السلوك منك في كل وقت وفي كل مكان؟
 إنك تستطيع أن تستحضر النية التعبدية في أي مكان، وستجد الصفاء النفسي العالي.
 إذن فحين يصطفي الله زماناً أو مكاناً أو يصطفي إنساناً إنما يشاء الحق سبحانه وتعالى أن يشيع اصطفاء الإنسان في كل الناس، واصطفاء المكان في كل الأمكنة واصطفاء الزمان في كل الأزمنة، 

ولذلك أتعجب عندما أجد الناس تستقبل رمضان بالتسبيح وبآيات القرآن وبعد أن ينتهي رمضان ينسون ذلك.

 وأقول هل جاء رمضان ليحرس لنا الدين
 أم أن رمضان يجيء ليدربنا على أن نعيش بخلق الصفاء في كل الأزمنة؟

 وقوله الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ}
يدلنا على أن المسلمين ليسوا بدعاً في مسألة الصوم، بل سبقهم أناس من قبل إلى الصيام وإن اختلفت شكلية الصوم.

 وساعة يقول الحق: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} فهذا تقرير للمبدأ، مبدأ الصوم، ويُفَصّلُ الحق سبحانه المبدأ من بعد ذلك فيقول: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ... }
أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)  سورة البقرة الاية رقم 184

معانى الكلمات
يُطيقونه : يستطيعونه 
 و الحكم منسوخ بآية "فمن شَهِد"
 تطوّع خيرا : زاد في الفدية  

وكلمة {أَيَّاماً} تدل على الزمن وتأتي مجملة، وقوله الحق عن تلك الأيام: إنها {مَّعْدُودَاتٍ} يعني أنها أيام قليلة ومعروفة. ومن بعد ذلك يوضح الحق لنا مدة الصيام فيقول: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان ... }
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

سورة البقرة الاية رقم 185  
معانى الكلمات
ولتكبّروا الله : لتحمدوا الله و تُثنوا عليه
إذن، فمدة الصيام هي شهر رمضان، ولأنه سبحانه العليم بالضرورات التي تطرأ على هذا التكليف فهو يشرع لهذه الضرورات
 وتشريع الله لرخص الضرورة إعلام لنا بأنه لا يصح مطلقاً لأي إنسان أن يخرج عن إطار الضرورة التي شرعها الله
 فبعض من الذين يتفلسفون من السطحيين يحبون أن يزينوا لأنفسهم الضرورات التي تبيح لهم الخروج عن شرع الله، ويقول الواحد منهم: {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة: 286]
 ونقول: إنك تفهم وتحدد الوُسعَ على قدر عقلك ثم تقيس التكليف عليه، برغم أن الذي خلقك هو الذي يُكلف ويعلم أنك تَسَعُ التكليف، وهو سبحانه لا يكلف إلا بما في وسعك؛ بدليل أن المشرع سبحانه يعطي الرخصة عندما يكون التكليف ليس في الوسع.
 ولنر رحمة  الحق سبحانه وتعالي  وهو يقول: {ومن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وكلمة {مَرِيضاً} كلمة عامة، وأنت فيها حجة على نفسك وبأمر طبيب مسلم حاذق يقول لك: «إن صمت فأنت تتعب» والمرض مشقته مزمنة في بعض الأحيان، ولذلك تلزم الفدية بإطعام مسكين. وكذلك يرخص الله لك عندما تكون {على سَفَرٍ} . وكلمة {سَفَرٍ} هذه مأخوذة من المادة التي تفيد الظهور والانكشاف، ومثل ذلك قولنا: «أسفر الصبح» . 
وكلمة «سفر» تفيد الانتقال من مكان تقيم فيه إلى مكان جديد، وكأنك كلما مشيت خطوة تنكشف لك أشياء جديدة، والمكان الذي تنتقل إليه هو جديد بالنسبة لك، حتى ولو كنت قد اعتدت أن تسافر إليه؛ لأنه يصير في كل مرة جديداً لما ينشأ عنه من ظروف عدم استقرار في الزمن، صحيح أن شيئاً من المباني والشوارع لم يتغير، ولكن الذي يتغير هو الظروف التي تقابلها، صحيح أن ظروف السفر في زماننا قد اختلفت عن السفر من قديم الزمان.
 إن المشقة في الانتقال قديماً كانت عالية، ولكن لنقارن سفر الأمس مع سفر اليوم من ناحية الإقامة. 

وستجد أن سفر الآن بإقامة الآن فيه مشقة، ومن العجب أن الذين يناقشون هذه الرخصة يناقشونها ليمنعوا الرخصة، ونقول لهم: اعلموا أن تشريع الله للرخص ينقلها إلى حكم شرعي مطلوب؛ وفي ذلك يروي لنا جابر بن عبد الله رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سفر فرأى زحاماً ورجلاً قد ظلّل عليه فقال:» ما هذا «فقالوا» : صائم فقال: «ليس من البر الصوم في السفر» «. وعندما تقرأ النص القرآني تجده يقول: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي أن مجرد وجود في السفر يقتضي الفطر والقضاء في أيام أخر، ومعنى ذلك أن الله لا يقبل منك الصيام، صحيح أنه سبحانه لم يقل لك:» افطر «ولكن مجرد أن تكون مريضاً مرضاً مؤقتا أو مسافراً فعليك الصوم في عدة أيام أخر وأنت لن تشرع لنفسك.

 ولنا في رسول الله أسوة حسنة فقد نهى عن صوم يوم عيد الفطر، لأن عيد الفطر سُمي كذلك، لأنه يحقق بهجة المشاركة بنهاية الصوم واجتياز الاختبار، فلا يصح فيه الصوم، 
والصوم في أول أيام العيد إثم، لكن الصوم في ثاني أيام العيد جائز، لحديث عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن صيام يومين: يوم الفطر ويوم الأضحى» .

 وقد يقول قائل: ولكن الصيام في رمضان يختلف عن الصوم في أيام أخر؛ لأن رمضان هو الشهر الذي أنزل فيه القرآن. وأقول: إن الصوم هو الذي يتشرف بمجيئه في شهر القرآن، 

ثم إن الذي أنزل القرآن وفرض الصوم في رمضان هو سبحانه الذي وهب الترخيص بالفطر للمريض أو المسافر ونقله إلى أيام أخر في غير رمضان، وسبحانه لا يعجز عن أن يهب الأيام الأخر نفسها التجليات الصفائية التي يهبها للعبد الصائم في رمضان. 

 إن الحق سبحانه حين شرع الصوم في رمضان إنما أراد أن يشيع الزمن الضيق زمن رمضان في الزمن المتسع وهو مدار العام. 

 ونحن نصوم رمضان في الصيف ونصومه في الشتاء وفي الخريف والربيع

 إذن فرمضان يمر على كل العام.
 ويقول الحق: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} والطوق هو القدرة فيطيقونه أي يدخل في قدرتهم وفي قولهم، والفدية هي إطعام مسكين.

 ويتساءل الإنسان: كيف يطيق الإنسان الصوم ثم يؤذن له بالفطر مقابل فدية هي إطعام مسكين؟

 وأقول: إن هذه الآية دلت على أن فريضة الصوم قد جاءت بتدرج، كما تدرج الحق في قضية الميراث، فجعل الأمر بالوصية، وبعد ذلك نقلها إلى الثابت بالتوريث؛ كذلك أراد الله أن يُخرج أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من دائرة أنهم لا يصومون إلى أن يصوموا صياماً يُخيّرهُم فيه لأنهم كانوا لا يصومون ثم جاء الأمر بعد ذلك بصيام لا خيار فيه، فكأن الصوم قد فرض أولا باختيار، وبعد أن اعتاد المسلمون وألفوا الصوم جاء القول الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}

 وفي هذه الآية لم يذكر الحق الفدية أو غيرها. إذن كانت فريضة الصوم القرار الارتقائي، فصار الصوم فريضة محددة المدة وهي شهر رمضان {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وبذلك انتهت مسألة الفدية بالنسبة لِمَنْ يطيق الصوم، أما الذي لا يطيق أصلاً بأن يكون مريضاً أو شيخاً، فإن قال الأطباء المسلمون: إن هذا مرض «لا يُرجى شفاؤه» نقول له: أنت لن تصوم أياما أخر وعليك أن تفدي.
 لقد جاء تشريع الصوم تدريجياً ككثير من التشريعات التي تتعلق بنقل المكلفين من إلف العادات، كالخمر مثلاً والميسر والميراث، وهذه أمور أراد الله أن يتدرج فيها. 

ويقول قائل: مادام فرض الصيام كان اختيارياً فلماذا قال الحق بعد الحديث عن الفدية {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ؟ وأقول: عندما كان الصوم اختيارياً كان لابد أيضا من فتح باب الخير والاجتهاد فيه، فمَنْ صام وأطعم مسكيناً فهذا أمر مقبول منه، ومن صام وأطعم مسكينين، فذاك أمر أكثر قبولا. ومَنْ يدخل مع الله من غير حساب يؤتيه الله من غير حساب، ومن يدخل على الله بحساب، يعطيه الحق بحساب، وقول الحق: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} هو خطوة في الطريق لتأكيد فرضية الصيام، وقد تأكد ذلك الفرض بقوله الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ولم يأت في هذه الآية بقوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأن المسألة قد انتقلت من الاختيار إلى الفرض.

 إذن فالصيام هو منهج لتربية الإنسان، وكان موجوداً قبل أن يبعث الحق سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعندما جاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل الصوم على المسلمين اختيارياً في البداية، ثم فريضة من بعد ذلك. 
وقد شرع الله الصوم في الإسلام بداية بأيام معدودة ثم شرح لنا الأيام المعدودة بشهر رمضان.
وقال الشيخ الشعراوي " والذي يطمئن إليه خاطري أن الله بدأ مشروعية الصوم بالأيام المعدودة، ثلاثة أيام من كل شهر وهو اليوم العاشر والعشرون، والثلاثون من أيام الشهر، وكانت تلك هي الأيام المعدودة التي شرع الله فيها أن نصوم؛ وكان الإنسان مخيراً في تلك الأيام المعدودة: إن كان مطيقا للصوم أن يصوم أو أن يفتدي"

 أما حين شرع الله الصوم في رمضان فقد أصبح الصوم فريضة تعبدية وركناً من أركان الإسلام، وبعد ذلك جاءنا الاستثناء للمريض والمسافر
 إذن لنا أن نلحظ أن الصوم في الإسلام كان على مرحلتين: المرحلة الأولى: أن الله سبحانه وتعالى شرع صيام أيام معدودة، وقد شرحنا أحكامها، والمرحلة الثانية هي تشريع الصوم في زمن محدود. . شهر رمضان، والعلماء الذين ذهبوا إلى جواز رفض إفطار المريض وإفطار المسافر لأنهم لم يرغبوا أن يردوا حكمة الله في التشريع، أقول لهم: إن الحق سبحانه وتعالى حين يرخص لابد أن تكون له حكمة أعلى من مستوى تفكيرنا، وأن الذي يؤكد هذا أن الحق سبحانه وتعالى قال: {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . الحكم هنا هو الصوم عدة أيام أخر، ولم يقل فمن أفطر فعليه عدة من أيام أخر، أي أن صوم المريض والمسافر قد انتقل إلى وقت الإقامة بعد السفر، والشفاء من المرض، فالذين قالوا من العلماء: هي رخصة، إن شاء الإنسان فعلها وإن شاء تركها، لابد أن يقدر في النص القرآني {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ} ، فأفطر، {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . ونقول: ما لا يحتاج إلى تأويل في النص أولى في الفهم مما يحتاج إلى تأويل، وليكن أدبنا في التعبير ليس أدب ذوق، بل أدب طاعة؛ لأن الطاعة فوق الأدب. إذن فالذين يقولون هذا لا يلحظون أن الله يريد أن يخفف عنا، ثم ما الذي يمنعنا أن نفهم أن الحق سبحانه وتعالى أراد للمريض وللمسافر رخصة واضحة، فجعل صيام أي منهما في عدة من الأيام الأخر. فإن صام في رمضان وهو مريض أو على سفر فليس له صيام، أي أن صيامه لا يعتد به ولا يقبل منه، وهذا ما أرتاح إليه، ولكن علينا أن ندخل في اعتبارنا أن المراد من المرض والسفر هنا، هو ما يخرج مجموع ملكات الإنسان عن سويّتها.

 وما معنى كلمة «شهر» التي جاءت في قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟ . 
إن كلمة «شهر» مأخوذة من الإعلام والإظهار، وما زلنا نستخدمها في الصفقات فنقول مثلا: لقد سجلنا البيع في «الشهر العقاري» أي نحن نعلم الشهر العقاري بوجود صفقة، حتى لا يأتي بعد ذلك وجود صفقة على صفقة
 فكلمة «شهر» معناها الإعلام والإظهار، وسُميت الفترة الزمنية «شهراً» لماذا؟
 لأن لها علامة تُظهرها، ونحن نعرف أننا لا نستطيع أن نعرف الشهر عن طريق الشمس؛ فالشمس هي سمة لمعرفة تحديد اليوم، فاليوم من مشرق الشمس إلى مشرق آخر وله ليل ونهار. ولكن الشمس ليست فيها علامة مميزة سطحية ظاهرة واضحة تحدد لنا بدء الشهر، إنما القمر هو الذي يحدد تلك السمة والعلامة بالهلال الذي يأتي في أول الشهر، ويظهر هكذا كالعرجون القديم، إذن فالهلال جاء لتمييز الشهر، والشمس لتمييز النهار، ونحن نحتاج لهما معا في تحديد الزمن. إن الحق سبحانه وتعالى يربط الأعمال العبادية بآيات كونية ظاهرة التي هي الهلال، وبعد ذلك نأخذ من الشمس اليوم فقط؛ لأن الهلال لا يعطيك اليوم، فكأن ظهور الهلال على شكل خاص بعدما يأتي المحاق وينتهي، فميلاد الهلال بداية إعلام وإعلان وإظهار أن الشهر قد بدأ، ولذلك تبدأ العبادات منذ الليلة الأولى في رمضان؛ لأن العلامة الهلال مرتبطة بالليل، فنحن نستطلع الهلال في المغرب، فإن رأيناه نقل شهر رمضان بدأ. 

ولم تختلف هذه المسألة لأن النهار لا يسبق الليل، إلا في عبادة واحدة وهي الوقوف بعرفة، فالليل الذي يجئ بعدها هو الملحق بيوم عرفة.

 وكلمة {رَمَضَانَ} مأخوذة من مادة (الراء والميم والضاد) ، وكلها تدل على الحرارة وتدل على القيظ «ورمض الإنسان» أي حر جوفه من شدة العطش، و «الرمضاء» أي الرمل الحار، وعندما يقال: «رمضت الماشية» أي أن الحر أصاب خفها فلم تعد تقوى أن تضع رجلها على الأرض، إذن فرمضان مأخوذ من الحر ومن القيظ، وكأن الناس حينما أرادوا أن يضعوا أسماء للشهور جاءت التسمية لرمضان في وقت كان حاراً، فسموه رمضان كما أنهم ساعة سموا مثلا «ربيعاً الأول وربيعاً الآخر» أن الزمن متفقاً مع وجود الربيع، وعندما سموا جمادى الأولى وجمادى الآخرة «كان الماء يجمد في هذه الأيام. فكأنهم لاحظوا الأوصاف في الشهور ساعة التسمية، ثم دار الزمن العربي الخاص المحدد بالشهور القمرية في الزمن العام للشمس. فجاء رمضان في صيف، وجاء في خريف، لكن ساعة التسمية كان الوقت حاراً.
 وهب أن إنسانا جاءه ولد جميل الشكل، فسماه «جميلاً» . 
وبعد ذلك مرض والعياذ بالله بمرض الجدري فشوه وجهه، فيكون الاسم قد لوحظ ساعة التسمية، وإن طرأ عليه فيما بعد ذلك ما يناقض هذه التسمية، وكأن الحق سبحانه وتعالى حينما هيأ للعقول البشرية الواضعة للألفاظ أن يضعوا لهذا الشهر ذلك الاسم، دل على المشقة التي تعتري الصائم في شهر رمضان، وبعد ذلك يعطي له سبحانه منزلة تؤكد لماذا سُمي، إنه الشهر الذي أُنزل فيه القرآن، والقرآن إنما جاء منهج هداية للقيم، والصوم امتناع عن الاقتيات، فمنزلة الشهر الكريم أنه يربي البدن ويربي النفس، فناسب أن يوجد التشريع في تربية البدن وتربية القيم مع الزمن الذي جاء فيه القرآن بالقيم، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} . وإذا سمعت {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} فافهم أن هناك كلمات «أنزل» و «نَزّل» و «نزل» ، فإذا سمعت كلمة «أنزل» تجدها منسوبة إلى الله دائما: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] أما في كلمة «نَزَلَ» فهو سبحانه يقول: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وقال الحق: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] إذن فكلمة «أنزل» مقصورة على الله، إنما كلمة «نَزّلَ» تأتي من الملائكة، و «نَزَلَ» تأتي من الروح الأمين الذي هو «جبريل» ، فكأن كلمة «أنزل» بهمزة التعدية، عدت القرآن من وجوده مسطوراً في اللوح المحفوظ إلى أن يبرز إلى الوجود الإنساني ليباشر مهمته. 
وكلمة «نَزَلَ» و «نَزَّلَ» نفهمهما أن الحق أنزل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا مناسباً للأحداث ومناسباً للظروف، فكان الإنزال في رمضان جاء مرة واحدة، والناس الذين يهاجموننا يقولون كيف تقولون: إن رمضان أنزل فيه القرآن مع أنكم تشيعون القرآن في كل زمن، فينزل هنا وينزل هناك وقد نزل في مدة الرسالة المحمدية؟ نقول لهم: نحن لم نقل إنه «نزل» ولكننا قلنا «أنزل» ، فأنزل: تعدي من العِلم الأعلى إلى أن يباشر مهمته في الوجود. 
وحين يباشر مهمته في الوجود ينزل منه «النَّجْم» يعني القسط القرآني موافقا للحدث الأرضي ليجيء الحكم وقت حاجتك، فيستقر في الأرض، إنما لو جاءنا القرآن مكتملاً مرة واحدة فقد يجوز أن يكون عندنا الحكم ولا نعرفه، لكن حينما لا يجيء الحكم إلا ساعة نحتاجه، فهو يستقر في نفوسنا.
 وأضرب هذا المثل ولله المثل الأعلى أنت مثلاً تريد أن تُجهز صيدلية للطوارئ في المنزل، وأنت تضع فيها كل ما يخص الطوارئ التي تتخيلها، ومن الجائز أن يكون عندك الدواء لكنك لست في حاجة له، أما ساعة تحتاج الدواء وتذهب لتصرف تذكرة الطبيب من الصيدلية، عندئذ لا يحدث لبس ولا اختلاط، فكذلك حين يريد الله حكماً من الأحكام ليعالج قضية من قضايا الوجود فهو لا ينتظر حتى ينزل فيه حكم من الملأ الأعلى من اللوح المحفوظ، إنما الحكم موجود في السماء الدنيا، فيقول للملائكة: تنزلوا به، وجبريل ينزل في أي وقت شاء له الحق أن ينزل من أوقات البعثة المحمدية، أو الوقت الذي أراد الله سبحانه وتعالى أن يوجد فيه الحكم الذي يغطي قضية من القضايا.
 إذن فحينما يوجد من يريد أن يشككنا نقول له: لا.
 نحن نملك لغة عربية دقيقة، وعندنا فرق بين «أنزل» و «نَزَّل» و «نزل» ولذلك فكلمة «نزل» تأتي للكتاب، وتأتي للنازل بالكتاب يقول تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] ويقول سبحانه: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] وكان بعض من المشركين قد تساءلوا؛ لماذا لم ينزل القرآن جملة واحدة؟ . 
وانظر إلى الدقة في الهيئة التي أراد الله بها نزول القرآن فقد قال الحق: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]

 وعندما نتأمل قول الحق: {كَذَلِكَ} فهي تعني أنه سبحانه أنزل القرآن على الهيئة التي نزل بها لزوماً لتثبيت فؤاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين
 ولو نزل مرة واحدة لكان تكليفاً واحداً
 وأحداث الدعوة شتى وكل لحظة تحتاج إلى تثبيت فحين يأتي الحدث ينزل نَجْم قرآني فيعطي به الحق تثبيتا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ
 وأضرب مثلا بسيطا ولله المثل الأعلى والمنزه عن كل تشبيه أن ابناً لك يريد حُلة جديدة أتحضرها له مرة واحدة، فتصادفه فرحة واحدة
 أم تحضر له في يوم رابطة العنق واليوم الذي يليه تحضر له القميص الجديد، ثم تحضر له «البدلة» ؟ 
 إذن فكل شيء يأتي له وقع وفرحة. 
والحق ينزل القرآن منجماً لماذا؟
 {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} 
ومعنى {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} أي أنك ستتعرض لمنغصات شتى، وهذه المنغصات الشتى كل منها يحتاج إلى تَرْبِيتٍ عليك وتهدئة لك، فيأتي القسط القرآني ليفعل ذلك وينير أمامك الطريق. {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} 
أي لم نأت به مرة واحدة بل جعلناه مرتباً على حسب ما يقتضيه من أحداث. 
حتى يتم العمل بكل قسط، ويهضمه المؤمن ثم نأتي بقسط آخر.
 ولنلحظ دقة الحق في قوله عن القرآن: {وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً} [الفرقان: 33] 
إن الكفار لهم اعتراضات، ويحتاجون إلى أمثلة، فلو أنه نزل جملة واحدة لأهدرَتْ هذه القضية
وكذلك حين يسأل المؤمنون يقول القرآن: يسئلونك عن كذا وعن كذا، ولو شاء الله أن يُنزل القرآن دفعة واحدة، فكيف كان يغطي هذه المسألة؟
 فما داموا سوف يسألون فلينتظر حتى يسألوا ثم تأتي الإجابة بعد ذلك.
 إذن فهذا هو معنى «أنزل» أي أنه أنزل من اللوح المحفوظ، ليباشر مهمته في الوجود، وبعد ذلك نزل به جبريل، أو تتنزل به الملائكة على حسب الأحداث التي جاء القرآن ليغطيها. 

ويقول الحق: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ} .
 ونعرف أن كلمة {هُدًى} معناها: الشيء الموصل للغاية بأقصر طريق، فحين تضع إشارات في الطريق الملتبسة، فمعنى ذلك أننا نريد للسالك أن يصل إلى الطريق بأيسر جهد،
 و «هدى» تدل على علامات لنهتدي بها يضعها الخالق سبحانه، لأنه لو تركها للخلق ليضعوها لاختلفت الأهواء، وعلى فرض أننا سنسلم بأنهم لا هوى لهم ويلتمسون الحق، وعقولهم ناضجة، سنسلم بكل ذلك، ونتركهم كي يضعوا المعالم،
 ونتساءل: 
وماذا عن الذي يضع تلك العلامات، وبماذا يهتدي؟ 
 إذن فلابد أن يوجد له هدى من قبل أن يكون له عقل يفكر به، كما أن الذي يضع هذا الهدى لابد ألا ينتفع به، وعلى ذلك فالله سبحانه أغنى الأغنياء عن الخلق ولن ينتفع بأي شيء من العباد، أما البشر فلو وضعوا «هدى» فالواضع سينتفع به
ورأينا ذلك رأى العين؛ فالذي يريد أن يأخذ مال الأغنياء ويغتني يخترع المذهب الشيوعي
 والذي يريد أن يمتص عرق الغير يضع مذهب الرأسمالية، ومذاهب نابعة من الهوى، ولا يمكن أن يُبرأ أحد من فلاسفة المذاهب نفسه من الهوى: 
الرأسمالي يقنن فيميل لهوى نفسه، والشيوعي يميل لنفسه، ونحن نريد مَن يُشرع لنا دون أن ينتفع بما شرع، ولا يوجد من تتطابق معه هذه المواصفات إلا الحق سبحانه وتعالى فهو الذي يشرع فقط، وهو الذي يشرع لفائدة الخلق فقط.

 والذي يدلك على ذلك أنك تجد تشريعات البشر تأتي لتنقض تشريعات أخرى، لأن البشر على فرض أنهم عالمون فقد يغيب عنهم أشياء كثيرة، برغم أن الذي يضع التشريع يحاول أن يضع أمامه كل التصورات المستقبلية، ولذلك نجد التعديلات تجرى دائما على التشريعات البشرية؛ لأن المشرع غاب عنه وقت التشريع حكم لم يكن في باله، وأحداث الحياة جاءت فلفتته إليه، 
فيقول: التشريع فيه نقص ولم يعد ملائماً، ونعدله.
 إذن فنحن نريد في من يضع الهدى والمنهج الذي يسير عليه الناس بجانب عدم الانتفاع بالمنهج لابد أيضا أن يكون عالما بكل الجزئيات التي قد يأتي بها المستقبل، وهذا لا يتأتى إلا في إله عليم حكيم، ولذلك قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام: 153] 
ستتبعون السبل، هذا له هوى، وهذا له هوى، فتوجد القوانين الوضعية التي تبددنا كلنا في الأرض، لأننا نتبع أهواءنا التي تتغير ولا نتبع منهج من ليس له نفع في هذه المسألة،
 ولذلك أقول: افطنوا جيداً إلى أن الهدى الحق الذي لا أعترض عليه هو هدى الله، {هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} .
 والقرآن في جملته «هدى» 
والفرقان هو أن يضع فارقاً في أمور يلتبس فيها الحق بالباطل، فيأتي التنزيل الحكيم ليفرق بين الحق والباطل.
 ويقول الحق: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} 
 وحين تجد تعقيباً على قضية فافهم أن من شهد منكم الشهر فليصمه ولابد أن تقدر من شهد الشهر فليصمه إن كان غير مريض، وإن كان غير مسافر، لابد من هذا مادام الحق قد جاء بالحكم.
 و «شهد» هذه تنقسم قسمين:
 {فَمَن شَهِدَ} أي من حضر الشهر وأدركه وهو غير مريض وغير مسافر أي مقيم، {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}
ونريد أن نفهم النص بعقلية من يستقبل الكلام من إله حكيم، إن قول الله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}
تعقيب على ماذا؟ تعقيب على أنه أعفى المريض وأعفى المسافر من الصيام، فكأن الله يريد بكم اليسر، فكأنك لو خالفت ذلك لأردت الله معسراً لا ميسراً والله لا يمكن أن يكون كذلك، بل أنت الذي تكون معسراً على نفسك
 فإن كان الصوم له قداسة عندك، ولا تريد أن تكون أسوة فلا تفطر أمام الناس، والتزم بقول الله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لأنك لو جنحت إلى ذلك لجعلت الحكم في نطاق التعسير، فنقول لك: لا، إن الله يريد بك اليسر،
 فهل أنت مع العبادة أم أنت مع المعبود؟ أنت مع المعبود بطبيعة الإيمان. 
واشار الامام الشعراوي في خواطره الي مثال آخر نجده في حياتنا
هناك من يأتي ليؤذن ثم بعد الأذان يجهر بقول: «الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله»
 يقول: إن هذا حب لرسول الله
 لكن هل أنت تحب الرسول إلا بما شرع؟ 
إنه قد قال: «إذا سمعت النداء فقولوا مثلما يقول المؤذن ثم صلوا علي»
 فقد سمح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمن يؤذن ولمن يسمع أن يصلي عليه في السر، لا أن يأتي بصوت الأذان الأصيل وبلهجة الأذان الأصيلة ونصلي على النبي، لأن الناس قد يختلط عليها، وقد يفهم بعضهم أن ذلك من أصول الأذان. 
إنني أقول لمن يفعل ذلك: يا أخي، ألا توجد صلاة مقبولة على النبي إلا المجهور بها؟
 لا إن لك أن تصلي على النبي، لكن في سرك.
 وكذلك إن جاء من يفطر في رمضان لأنه مريض أو على سفر، نقول له: استتر، حتى لا تكون أسوة سيئة؛ لأن الناس لا تعرف أنك مريض أو على سفر، استتر كي لا يقول الناس: إن مسلماً أفطر. ويقول الحق: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} فمعناها كي لا تفوتكم أيام من الصيام.

 انظروا إلى دقة الأداء القرآني في قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}
إن العبادة التي نفهم أن فيها مشقة هي الصيام وبعد ذلك تكبرون الله؛ لأن الحق سبحانه عالم أن عبده حين ينصاع لحكم أراده الله وفيه مشقه عليه مثل الصوم ويتحمله، وعندما يشعر بأنه قد انتهى منه إنه سبحانه عالم بأن العبد سيجد في نفسه إشراقاً يستحق أن يشكر الله الذي كلفه بالصوم ووفقه إلى أدائه؛
 لأن معنى {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} يعني أن تقول: «الله أكبر» وأن تشكره على العبادة التي كنت تعتقد أنها تضنيك، لكنك وجدت فيها تجليات وإشراقات
فتقول: الله أكبر من كل ذلك
الله أكبر؛ لأنه حين يمنعني يعطيني
 وسبحانه يعطي حتى في المنع؛ فأنت تأخذ مقومات حياة ويعطيك في رمضان ما هو أكثر من مقومات الحياة والإشراقات التي تتجلى لك، وتذوق حلاوة التكليف
 وإن كان قد فوت عليك الاستمتاع بنعمة فإنه سبحانه وتعالي أعطاك نعمة أكثر منها. 

وبعد ذلك فالنسق القرآني ليس نسقاً من صنع البشر، فنحن نجد أن نسق البشر يقسم الكتاب أبواباً وفصولاً ومواد كلها مع بعضها، ويُفصل كل باب بفصوله ومواده
 وبعد ذلك ينتقل لباب آخر، لكن الله لا يريد الدين أبواباً، وإنما يريد الدين وحدة متكاتفة في بناء ذلك الإنسان، فيأتي بعد قوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله} ب {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ومعنى ذلك أنكم سترون ما يجعلكم تنطقون ب «الله أكبر» ؛ لأن الله أسدى إليكم جميلاً، وساعة يوجد الصفاء بين «العابد» وهو الإنسان و «المعبود» وهو الرب، ويثق العابد بأن المعبود لم يكلفه إلا بما يعود عليه بالخير، هنا يحسن العبد ظنه بربه، فيلجأ إليه في كل شيء، ويسأله عن كل شيء، ولذلك جاء هنا قول الحق: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ ... }-

قال تعالي (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) سورة البقرة الاية رقم 187  
معانى الكلمات
الرّفث : الِوقاع 
هنّ لباس لكم : سكنٌ أو سترٌ لكم عن الحرام 
حدود الله : منهيّاته و محرّماته
 تفسير الشعراوى رحمة الله لهذه الاية 
بعد أن أورد لنا الحق آداب الدعاء ومزجها وأدخلها في الصوم، يشرح لنا سبحانه آداب التعامل بين الزوجين في أثناء الصيام، ويأتي هذا التداخل والامتزاج بين الموضوعات المختلفة في القرآن لنفهم منه أن الدين وحدة متكاتفة تُخاطب كل الملكات الإنسانية، ولا يريد سبحانه أن تظهر أو تطغى ملكة على ملكة أبدا.
 يقول الحق: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} 
وساعة تسمع {أُحِلَّ لَكُمْ} فكأن ما يأتي بالتحليل كان محرماً من قبل.
 والذي أحله الله في هذا القول كان المحرم عينه في الصيام، لأن الصيام إمساك بالنهار عن شهوة البطن وشهوة الفرج، فكأنه قبل أن تنزل هذه الآية كان الرفث إلى النساء في ليل الصيام حراماً
 فقد كان الصيام في بدايته إمساكاً عن الطعام من قبل الفجر إلى لحظة الغروب، ولا اقتراب بين الزوجين في الليل أو النهار. فكان الرفث في ليلة الصيام محرماً. 
وكان يحرم عليهم الطعام والشراب بعد صلاة العشاء وبعد النوم حتى يفطروا. 

وجاء رجل وقال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ذهبت فلم أجد أهلي قد أعدوا لي طعاما، فنمت، فاستيقظت يا رسول الله فعلمت أني لا أقدر أن آكل ولذلك فأنا أعاني من التعب، فأحل الله مسألتين: 
المسألة الأولى هي: الرفث إلى النساء في الليل
 والمسألة الثانية قوله الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر}
أي كلوا واشربوا إلى الفجر حتى ولو حصل منكم نوم، وهذه رخصة جديدة لكل المسلمين مثلها مثل الرخصة الأولى التي جاءت للمسافر أو المريض
كانت الرخصة الأولى بخصوص مشقة الصوم على المسافر أو المريض
 أما الرخصة الجديدة فهي عامة لكل مسلم وهي تعميق لمفهوم الحكم.
 وقد ترك الحق هذا الترخيص مؤجلا بعض الشيء لكي يدرك كل مسلم مدى التخفيف، لأنه قد سبق له أن تعرض إلى زلة المخالفة، ورفعها الله عنه، وانظر للآية القرآنية وهي تقول: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ}
كلمة {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} هذه تعلمنا أن الإنسان لم يقو على الصوم كل الوقت عن شهوة الفرج، فعندما تركك تختان نفسك، ثم أنزل لك الترخيص، هنا تشعر بفضل الله عليك.
 إذن فبعض الرخص التي يرخص الله لعباده في التكاليف: رخصة تأتي مع التشريع، ورخصة تخفيفية تأتي بعد أن يجيء التشريع، لينبه الحق أنه لو لم يفعل ذلك لتعرضتم للخيانة والحرج 
{عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} 
وانظر الشجاعة في أن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، يذهب إلى النبي ويقول له: أنا يا رسول الله ذهبت كما يذهب الشاب، والذي جاع أيضا يقول للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: إنه جاع، وجاء التشريع ليناسب كل المواقف، فنمسك نهاراً عن شهوتي البطن والفرج، وليلاً أحل الله لنا شهوتي البطن والفرج، وهذا التخفيف إنما جاء بعد وقوع الاختيان ليدلنا على رحمة الله في أنه قدر ظرف الإنسان
 {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ،
 و {الرفث} هو الاستمتاع بالمرأة، سواء كان مقدمات أو جماعاً. . {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} .
 والحق سبحانه وتعالى يريد أن يعطينا عملية التحام الرجل والمرأة بكلمة الله، و «اللباس» هو الذي يوضع على الجسم للستر، فكأن المرأة لباس للرجل والرجل لباس للمرأة واللباس أول مدلولاته ستر العورة. 

فكأن الرجل لباس للمرأة أي ستر عورتها، والمرأة تستر عورته، فكأنها عملية تبادلية، فهذا يحدث في الواقع فهما يلتفان في ثوب واحد
ولذلك يقول: {بَاشِرُوهُنَّ} أي هات البشرة على البشرة. 
إذن فالحق سبحانه وتعالى يريد أن يعلمنا أن المرأة لباس ساتر للرجل، والرجل لباس ساتر للمرأة، ويريد الحق سبحانه وتعالى أن يظل هذا اللباس ستراً بحيث لا يفضح شيئاً من الزوجين عند الآخرين.
 ولذلك فالنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحذرنا أن يحدث بين الرجل وأهله شيء بالليل وبعد ذلك تقول به المرأة نهاراً، أو يقول به الرجل، فهذا الشيء محكوم بقضية الستر المتبادل. {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} . 
ومادام هن لباس لكم وأنتم لباس لهن، فيكون من رحمة التشريع بالإنسان وقد ضَمَّ الرجل والمرأة لباس واحد وبعد ذلك نطلب منهما أن يمتنعا عن التواصل.
 إذن فقول: {تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} كان مسألة حتمية طبيعية، ولذلك قال الحق بعدها: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ}
 ومعنى «تاب عليكم» هو إخبار من الله بأنه تاب، وحين يخبر الله بأنه تاب، أي شرع لهم التوبة،
 والتوبة كما نعرف تأتي على ثلاث مراحل: يشرع الله التوبة أولا، ثم تتوب أنت ثانيا،
 ثم يقبل الله التوبة ثالثاً، 
{وَعَفَا عَنْكُمْ} لأنه مادام قد جعل هذه العملية لحكمة إبراز سمو التشريع في التخفيف، فيكون القصد أن تقع هنا وأن يكون العفو منه سبحانه.
 ويقول الحق: {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} فلم يشأ أن يترك المباشرة على عنانها فقال: أنت في المباشرة لابد أن تتذكر ما كتبه الله، وما كتبه الله هو الإعفاف بهذا اللقاء والإنجاب
 فالمرأة تقصد إعفاف الرجل حتى لا تمتد عينه إلى امرأة أخرى، وهو يقصد أيضا بهذه العملية أن يعفها حتى لا تنظر إلى غيره، والله يريد الإعفاف في تلك المسألة لينشأ الطفل في هذا اللقاء على أرض صلبة من الطهر والنقاء.
 وحتى لا يتشكك الرجل في بضع منه هم أبناؤه، والحق سبحانه يريد طهارة الإنسان، فكل نسل يجب أن يكون محسوباً على من استمتع، وبعد الاستمتاع، عليه أن يتحمل التبعة، فلا يصح لمسلم أن يستمتع ويتحمل سواه تبعة ذلك، فالمسلم يأخذ كل أمر بحقه.
 {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} أي ما كتب الله من أن الزواج للإعفاف والإنجاب.
 وفي ذلك طهارة لكل أفراد المجتمع.
 ولذلك قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وفي بضع أحدكم صدقة. قالوا يا رسول الله: أيأتي أحدنا شهوته ويكون له أجر؟
 قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟
 فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» .
 ويتابع الحق: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} أي إلى أن يتضح لكم الفجر الصادق.
 وكان هناك على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذانان للفجر، كان بلال يؤذن بليل، أي ومازال الليل موجوداً، وكان ابن أم مكتوم يؤذن في اللحظة الأولى من الفجر، ولذلك قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فإن سمعتم أذان ابن أم مكتوم فأمسكوا» .
 لكن أحد الصحابة وهو عدي بن حاتم قال: أنا جعلت بجواري خيطا أبيض وخيطاً أسود، وأظل آكل حتى أتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

 فقال له: إنك لعريض القفا (أي قليل الفطنة) فالمراد هنا بياض النهار وسواد الليل. 
ويتابع الحق: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} .
 لقد كانوا يفهمون أن المباشرة في الليل حسب ما شرع الله لا تفسد الصوم. 
ولكن كان لابد من وضع آداب للسلوك داخل المسجد أو لآداب سنة الاعتكاف التي سنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العشر الأواخر من رمضان لهذا أوضح الحق أن حلال المباشرة بين الرجل وزوجته هو لغير المعتكف وفي غير ليل رمضان.
 أما المعتكف في المسجد فذلك الأمر لا يحل له، ومعنى الاعتكاف هو أن تحصر حركتك في زمن ما على وجودك في مكان ما، ولذلك يقولون: «فلان معتكف هذه الأيام» أي حبس حركته في زمن ما في مكان ما، وليس معنى ذلك أن الاعتكاف مقصور على العشر الأواخر من رمضان فقط، ولكن للمسلم أن يعتكف في بيت الله في أي وقت.
 واختلف العلماء في الاعتكاف، بعضهم اشترط أن يكون المرء صائماً حين يعتكف
 واشترطوا أيضا أن يكون الاعتكاف لمدة معينة، وأن يكون بالمسجد، وقالوا: إن أردت الاعتكاف، فاحصر حركتك في مكان هو بيت الله.
 وكثير من العلماء يقولون: إنك إذا دخلت المسجد تأخذ ثواب الاعتكاف مادمت قد نويت سنة الاعتكاف؛ بشرط ألا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا؛ لأنك جئت من حركتك المطلقة في الأرض إلى بيت الله في تلك اللحظة، فاجعل لحظاتك لله. 

ولذلك «حينما رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً ينشد ضالته في المسجد أي شيئا قد ضاع منه فقال له:» لا ردها الله عليك فإن المساجد لم تبن لهذا «. لماذا؟

 لأن المسجد مكان للعبادة، ولذلك أقول لمن يحدثني في المسجد بأي شيء يتعلق بحركة الحياة: «أبشر بأنها لن تنفع» ؛ لأنك دخلت المسجد للعبادة فقط، إن لحظة دخولك المسجد هي لحظة جئت فيها لتقترب من ربك وتناجيه، وتعيش في حضن عنايته، فلماذا تأتي بالدنيا معك؟ 
وليكن لنا في أحد الصحابة قدوة حسنة؛ كان يقول: كنا نخلع أمر الدنيا مع نعالنا.
 وزاد صحابي آخر فقال له: وزد يا أخي أننا نترك أقدارنا مع نعالنا.

 انظر إلى الدقة، إن الصحابي المتبع لا يخلع الدنيا مع نعله فقط على باب المسجد، ولكن يخلع أيضا قدره في الدنيا. 
فيمكن أن تأخذك الدنيا ساعات اليوم الكثيرة، والمسجد لن يأخذ منك إلا الوقت القليل، فضع قدرك مع نعلك خارج المسجد، وادخل بلا قدر إلا قدر إيمانك بالله.

 وأجلس في المكان الذي تجده خالياً.
 فلا تتخط الرقاب لتصل إلى مكان معين في المسجد. 
فأنت تدخل بعبودية لله وقد يأتي مجلسك بجانب من يخدمك، والصغير يقعد بجانب الكبير، ولا تلحظ لك قدراً إلا قدرك عند الله. 
إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يجلس حيث ينتهي به المجلس.
 أي عندما يجد مكاناً له، وهذا خلاف زماننا حيث يحجز إنساناً مكاناً لإنسان آخر بالسجادة، وقد يدخل إنسان ليتخطى الرقاب، ويجلس في الصف الأول وهو لا يعلم أن الله قد صف الصفوف قبل أن يأتي هو إلى المسجد.
 ومادمنا سنترك أقدارنا فلا تقل أين سأجلس وبجوار مَنْ؟
 بل اجلس حيث ينتهي بك المجلس ولا تتخط الرقاب.
 وانو الاعتكاف ولا تتكلم في أي أمر من أمور الدنيا حتى لا تدخل في دعوة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألا يبارك الله لك في الضالة التي تنشدها وتطلبها.
 وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فهل معنى ذلك أن الاعتكاف لا يصح إلا في المساجد؟ 
لا؛ إن الاعتكاف يصح في أي مكان، ولكن الاعتكاف بالمسجد هو الاعتكاف الكامل؛ لأنك تأخذ فيه بالزمان والمكان معاً.
 {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} 
ومعنى «الحد» هو الفاصل المانع من اختلاط شيء بشيء، وحدود الله هي محارمه. 
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «. . ومَنْ وقع في الشبهات وقع في الحرام كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه، ألا إن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله تعالى في أرضه محارمه» . 
إذن فالمحارم هي التي يضع الله لها حداً فلا نتعداه.
 ولنا أن نلحظ أنه ساعة ينهى الله عن شيء فهو يقول: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} 
وساعة يأمر بأمر يقول سبحانه: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} . 
وفي ذلك رحمة من الله بك أيّها المكلف. 
فلا تجعل امرأتك تأتيك وأنت في معتكفك، فقد تكون جميلة، صحيح أنك لا تنوى أن تفعل أي شيء، لكن عليك ألا تقرب أسباب النواهي، ومثال ذلك تحريم الخمر لقد أمر الحق باجتنابها أي ألا تقرب حتى مكان الخمر؛ لأن الاقتراب قد يُزين لك أمر احتسائها، إذن فلكي تمنع نفسك من تلك المحرمات فعليك ألا تقرب النواهي.
 وفي الأوامر عليك ألا تتعداها.
 ويذيل الحق الآية بقوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}
والآيات هي العجائب، وكل آية هي شيء عجيب لافت، لذلك نقول: هذه آية في الحسن، وتلك آية في الجمال، وقد تُطلق الآية أيضاً على السمة؛ لأن السمة أو العلامة هي التي تلفتنا إلى الشيء، فيكون ما جاء بالآية داخلا في معنى قوله الحق: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . 
ولقد أوضحت هذه الآية والآيات السابقة عليها، تشريعات الصيام والاستثناء من التشريع.
 رفعا للحظر ودفعا للمشقة بعد أن تقع، وكل ذلك ليستوفي التشريع كل مطلوبات الله من المُشَرَّع له. 
حين يأخذ كل إنسان ذلك البيان الوافي من ربه ويسيطر به على حركة حياته في ضوء منهج الله يكون قد اتقى.
 والتقوى كما نعلم ليست للنار فقط، لكنها اتقاء لكل مشاكل الحياة؛ فالذي يجعل الحياة مليئة بالمشاكل هو أننا نأخذ بالقوانين التي نسنها لأنفسنا ونعمل بها، ولكن إذا أخذنا تقنين الله لنا فمعنى ذلك أننا نتقي المشاكل.
 ولذلك يقول الحق: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً} [طه: 124] أي أن حياته تمتلئ بالهموم والمشاكل، لأنه يخالف منهج الله. 
وإذا لم تنشأ المشاكل مع المخالفات لقال الناس: خالفنا منهج الله وفلحنا، لذلك كان لابد أن توجد المشاكل لتنبهنا أن منهج الله يجب أن يسيطر. 
وحين يتمسك الناس بمنهج الله، لن تأتي لهم المشاكل بإذن الله. وانظر إلى دقة الأداء القرآني في ترتيب الأحكام بعضها على بعض، فالإنسان المخلوق لله في الأرض المسخرة له بكل ما فيها، له حياة يجب أن يحافظ عليها. 
وتبقى الحياة ببقاء الرزق في الاقتيات من مأكل ومشرب، وكذلك يبقى النوع الإنساني بالتزاوج. .
 وتكلم الله في رزق الاقتيات، فجعله للناس جميعا عندما قال: {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] وتكلم سبحانه مخاطباً المؤمنين في شأن هذا الرزق، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] وبعد ذلك شاء الله أن يديم على المؤمنين به قضية التكليف فحرَّم عليهم الطعام والشراب والنكاح في أيام رمضان، وهي حلال في غير رمضان، وأحلها الله في ليل رمضان.
 وإذا كان قد أرشد أن كل حركة في الحياة هدفها بقاء الحياة، وإذا كان بناء الحياة يتوقف على الطعام؛ وهو أمر ضروري لكل إنسان، وإذا كانت الحياة تمتد وتتوالى باستبقاء النوع، فيبلغ الرجل وينضج ويصير أهلاً للإخصاب، وتبلغ المرأة وتنضج وتصير أهلاً للحمل، فإذا كانت كل المسائل السابقة لازمة للجميع، فلابد من تشريع ينظم كل ذلك. 

إن التشريع يسمح لك أن تأكل مما تملك، أو تأكل مما لا مالك له، كنبات الأرض غير المملوكة لأحد، إلا أنك قبل أن تأكل لابد أن تنظر في الطعام لتعرف هل هو مما أحل الله أم لا؟
 والتشريع لا يسمح لك أن تأكل من نبات الأرض المملوك لغيرك، ويحرم عليك أن تصطاد حيوانات مملوكة لغيرك، فالتشريع يحترم الجهد الذي تحرك به مالك الأرض ليزرع النبات أو ليُربىَ الحيوان
 فلا تقل: إن ذلك النبات في الأرض وأنا آكل منه، أو أن ذلك حيوان موجود أمامي وأنا اصطدته.
 إن الحق يضع التشريع لينظم الحركة في المال المملوك للغير بعد أن نظم الحركة في المال غير المملوك والطعام غير المملوك، فإذا سبقك إلى المال غير المملوك أو الطعام غير المملوك إنسان، أو تحرك إنسان بحركة في الوجود فاستنبط مالاً صارت هناك قضية أخرى لا تتعلق بذات المأكول، ولكن بملكية المأكول، فقد بين الله سبحانه: أن كل عمليات اقتياتك في الحياة عملية لا يمكن أن تستقل بها أنت، فلابد من اختلاط حركة الآخرين معك، فأنت لا تأكل إلا مما يكون في أيديهم، وهم لا يأكلون إلا مما يكون في يدك.
 فالفلاح مثلاً يبذر البذر، ولكنّه يحتاج إلى الصانع الذي يصنع له الفأس، ويصنع له المحراث، ويصنع له الساقية، والذي يصنع ذلك يحتاج إلى من يعلمه، ويحضر له المواد الخام، إذن فهو سلسلت الأشياء التي توصلك إلى الطعام لوجدت حركات الكون كلها تخدم هذه المسألة.